تفسير الشعراوي للآية 48 من سورة الأنفال
تفسير الشعراوي للآية 48 من سورة الأنفال
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48)}.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه الكفار وهم قليل وذلك من صنع الله تعالى لتتم المعركة، وبدأ الشيطان يزين للكافرين أعمالهم ويمتدحها، ويغويهم: أنتم كثيرون ولا أحد مثلكم في فنون القتال وستحصلون على النصر في لمح البصر. لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يثبت المؤمنين ويقويهم، ولذلك شاء الله سبحانه أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار وهم قليل. والواقع أنهم قليل؛ لأن النصر ليس هنا بالعدد ولكن بتأييد الله تعالى، ومهما كثر الكفار فهم أمام تأييد الله قليل. ويحاول الشيطان أن يزين للكفار قتال المؤمنين، أي يجعله محبباً إلى نفوسهم وأنهم سيحققون النصر، ويصبحون حديث الجزيرة العربية كلها، وتخافهم الناس وتهابهم ويصبحون هم الكبراء وأصحاب الكلمة. وهكذا صور الشيطان لهم عملية قتال المسلمين في صورة محببة إلى قلوبهم. وهنا نرى بوضوح غباء الشيطان وعجزه عن أن يعلم قضاء الله، فلو علم ما ستنتهي إليه معركة بدر ما زين للكفار دخول المعركة؛ لأن المعركة انتهت بنصر المسلمين وقتل صناديد قريش، وعلت صورة المؤمنين في الجزيرة العربية كلها. ولم يكن النصر هو ما يريده الشيطان، ولكنه لجهله زين للكافرين المعركة.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48].
أي أن وسوسة الشيطان للكفار كانت في صورة تضخيم قوتهم وأن أحداً لن يغلبهم في قتالهم ببدر، وأنه- أي الشيطان- سيناصرهم في المعركة ويجيرهم إن حدث لهم سوء، ولكن هل للشيطان سلطان على أن يُعين الكفار؟ نحن نعلم أن الشيطان ليس له سلطان إلا التزيين فقط، فكيف يكون له سلطان على نتيجة المواجهة بين الحق والباطل؟. إن الشيطان يأتي في الآخرة فيطلب منه الكفار أن يجبرهم من عذاب الله تعالى؛ لأنه هو الذي أغواهم وزين لهم سوء أعمالهم وجرهم إلى طريق النار، فيتبرأ منهم ويقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
أي أنه يقول للكافرين: أنا لم أجبركم على المعاصي، فلم يكن لي عليكم سلطان القهر؛ لأقهركم على أن تفعلوا شيئاً ولا سلطان الحجة لأقنعكم بأن تفعلوا المعاصي، ولكني بمجرد أن دعوتكم استجبتم لي؛ لأنكم تريدون المعصية واتباع شهواتكم. وقوله: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}.
وأصرخ فلاناً أي سمع صراخه فذهب إليه لينقذه، والإنسان عندما يواجه قوة أكبر منه يلجأ إلى الصراخ لعل أحداً يسمع صراخه ويأتي لنجدته. والذي يسمع الصراخ إما أن يكون ضعيفاً فلا يستجيب؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ ذلك الذي يواجه الخطر، وإما أن يكون قوّياً فيذهب لنجدته، فيقال:(أصرخه) أي أنقذه وأزال سبب صراخه، وقوله تعالى: حاكيا ما يقوله الشيطان {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}.
أي أن الشيطان لا يستطيع أن ينجيهم من العذاب وينقذهم منه، فيزيل سبب صراخهم: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}
أي أنتم لا تستطيعون دفع العذاب عني.
وقد أخذ الشيطان يزين لهم أعمالهم ويعدهم كذباً بأنه سيجيرهم ويؤازرهم ويعمل على نصرهم حتى اقترب المؤمنون والكفار من بعضهم البعض وأصبحوا على مدى رؤية العين.
{فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ} [الأنفال: 48].
أي أنه بمجرد الترائي بين المؤمنين والكفار، وقبل أن يلتحموا في المعركة ويبدأ القتال هرب الشيطان وتبرأ من الكفار وجرى بعيداً، وهذا ما يشرحه الله تعالى في قوله: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16].
وهذا كلام منطقي مع موقف الشيطان حينما طرده الله ولعنه؛ لأنه رفض تنفيذ أمر السجود لآدم؛ فقال له الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} [ص: 78].
حينئذ تضرع الشيطان إلى الله تعالى أن يبقيه إلى يوم القيامة: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14].
وهكذا أقر الشيطان بطلاقة القدرة لله تعالى وبأنه عاجز لا يقدر على شيء أمام قوة الله، فقال الحق تبارك وتعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37-38].
إذن فالشيطان لا قدرة له ولا قوة على فعل شيء، وكل ما يمكنه هو الخداع والتزيين والكذب، ولذلك أخذ يخدع الكفار ويكذب عليهم، وما أن صار المؤمنون والكفار على مدى رؤية العين بعضهم لبعض، هرب الشيطان وفزع ونكص على عقبيه، وأعلن خوفه من الله؛ لأنه يعلم أن الله شديد العقاب.
إذن فمصدر خوف الشيطان هنا هو الخوف من العقاب ومن العذاب الذي سيصيبه حتماً، ولم يفزع الشيطان- إذن- حبّاً لله تعالى.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ...}.