حكاية عطر حمل رائحة الماضي .. وتمسك به المصريون في الحاضر
كولونيا 555 هي زجاجة عطر ، كان لها قيمتها فى حياة المصريين منذ عقود طويلة ، تشتم فيها رائحة الماضي الجميل بكل ما يحمل من ذكريات ، فالأطفال تقدمها للأم في عيدها ، و تتعطر بها الجدة ، و يستخدمها البعض لتطهير الجروح او لخفض حرارة المريض و لانقاذ من فقد الوعي ، و لربما كانوا يستخدمونها في أغراض منزلية أخرى ، فاستقرت في وجدان كل مصري ، لكن مالا تعرفه ان وراء زجاجة 555 قصة كفاح انتهت بالتأميم .
ـ بداية حمزة الشبراويشي :
ووفقًا لكتاب صنايعية مصر للكاتب عمر طاهر، ولد حمزة الشبراويشي في قرية (شبراويش) و لم يكن لديه شيئا سوى موهبته الفريدة فى صنع أسنسات العطور، و فى البداية استقر فى منطقة الحسين و افتتح محلا صغيرا لبيع العطور التى يصنعها بيديه ، عرف النجاح سريعا فافتتح فرعا فى الموسكي ثم وسط البلد، ثم قرر ان يتحول معمله الصغير إلى مصنع، فاشترى قطعة أرض صغيرة فى دار السلام و كلما توافر لديه بعض المال كان يشتري قطعة مجاورة لتوسعة المصنع، وكان يزرع بنفسه الليمون الذى يستخدمه فى تصنيع الكولونيا، و كان الملك فاروق يقدم سنويا جائزة لأفضل حديقة منزل، و كان منزله فى المعادي بقطعة أرض حوالي فدان تفوز بالجائزة كل عام ، وكان فى عيد الأم يقيم نافورة فى أرض المعارض بالجزيرة تضخ الكولونيا طوال اليوم، وأصبحت منتجات الشبراويشي جزءا هاما و ثابتا فى حياة المصريين : الكولونيا وبودرة التلك و مستحضرات التجميل .
وأضاف" الكتاب"، أن فى كل مرة كانت توضع أمام عبد الناصر قوائم بأسماء ستخضع لقرارالتأميم كان ناصر يشطب على اسم حمزة الشبراويشي و يستبعده عن قرارات التأميم ، ايمانا منه بأن الشبراويشى رجل عصامي و ليس إقطاعيا، و يمثل مصر بصناعة وطنية، كانت منتجات الشبراويشي فى كل بلد عربي، فى مصر تحمل اسم 555 وفى السعودية تحمل اسم ( سعود) و فى السودان تحمل صورة مطربهم الأشهر عبد الكريم كرومة، فى مصر أيضا كانت أم كلثوم بطلة إعلانات منتجات الشبراويشي فى الصحف، و عندما اقترضت مصر من أجل بناء السد العالي، كان يتم سداد جزء من هذه القروض فى شكل عيني ( ثلاجات إيديال، منسوجات قطنية، أثاث دمياطى) و كانت كولونيا 555 تحتل موقعا مهما فى هذه القائمة. من جهة أخرى كان ناصر زبونا محبا لمنتجات الشبراويشى ، فكان قراره صارما، لن نؤمم الشبراويشي ، لكن ترى ما الذي جعل ناصر يتراجع عن قراره ؟!!
ولم يكن حمزة الشبراويشي مهتما بالسياسة، و رفض كل العروض المغرية التي عرضت عليه لشراء مصنعه، كان عبود باشا يطارده ليل نهار لشراء المصنع، لكنه كان يرفض البيع متمسكا بصناعته و تجارته .و في نهاية عام 1965 أصيب حمزة الشبراويشى بجلطة ، و سافر إلى سويسرا لتلقي العلاج ، لم يكن يعرف أن ناصر كان يستبعده طوال الوقت من قرارات التأميم ، لو كان يعلم ما خاف أن يرجع، كان يتابع من سويسرا أخبار الأذى الذى يتعرض له أصحاب بعض الصناعات، فقرر أن تكون العودة إلى بيروت بعد ان تم الشفاء . و افتتح حمزة الشبراويشي فى بيروت مصنعا صغيرا لتصنيع العطور كبداية جديدة بعيدة عن الجو العام فى مصر، استغل البعض ما حدث و كانت الوشاية مكتملة الأركان، حمزة الشبراويشى هرب من مصر إلى لبنان و سيستقر هناك بعد أن يصفى أعماله و يسحب أمواله كلها، هنا كان قرار عبد الناصر بفرض الحراسة على ممتلكات الشبراويشى، و تم عرضها للبيع، و كان المقابل الذى دفعته شركة السكر و التقطير لشراء مصنع الشبراويشى و المحلات و الاسم التجارى و المنزل و بعض الفدادين زهيدا للغاية لم يتجاوز مبلغ 165 ألف جنيه !! .
عرف حمزة الشبراويشى الخبر و فهم أنه لا مجال للعودة، فاستمر فى لبنان ينتج و يواصل نجاحه حتى توفي مع نهاية الستينيات و عاد إلى مصر جثمانا ليدفن فيها حسب وصيته، كان الشبراويشى يعتبر عمال المصنع شركاءه فى التجربة وكانوا على قدر المسئولية فحافظوا عليه من بعده واستمرت منتجاته ناجحة، و عندما مات شيعوه سيرا على الأقدام من ميدان التحرير إلى مدفنه.
أما بيت المعادي الذى حصل على كأس الملك فاروق و بعد فرض الحراسة بسنوات تحول إلى منزل للسفير الإسرائيلي منذ عام 1980 حتى رحل عن المعادي ، و اما مصنع دار السلام فهو مهجور ومغلق منذ أكثر من خمسة عشر عاما و تحول إلى مقلب للقمامة، أما الكولونيا نفسها فيكن لها البعض محبة تاريخية، أما البعض الآخر فقد صار يراها مناسبة للسخرية و المعايرة !!
تعديل بسيط