هل تحول المصريون لآكلي بشر؟.. أستاذ عمارة يفند حقائق أهوال الشدة المستنصرية من خلال علم الآثار
الشدة المستنصرية هو مصطلح يطلق على مجاعة حدثت بمصر نتيجة غياب مياه النيل في والتي وقعت في نهاية عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله ما بين الأعوام 1036 - 1094.
وقد روى المؤرخون حكايات يشيب لها الولدان عن أحداث تلك الشدة كما أورد المقريزي وابن إياس على سبيل المثال من أن الأرض تصحرت، وهلك الحرث والنسل، وخُطف الخبز من على رؤوس الخبازين، وأكل الناس القطط والكلاب حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها بل وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع ما على مقابر أبائه من رخام وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه وخرجت النساء جياع صوب بغداد، وذكر ابن إلياس أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب؛ لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها.
وجاء في كتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء "ظهر الغلاء في مصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفسادوأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط وبلغت رواية أن الماء بدينار وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارا اشترى بها دقيق وعم مع الغلاء والوباء وانقطعت الطرقات برًا وبحرًا".
وحول ما ورد في المصادر من أهوال قال عدد من علماء الآثار الإسلامية إن هذه الروايات حول الشدة المستنصرية يشوبها طابع المبالغة، وخصيصًا حول قضية "أكل المصريين لحوم البشر" وهو الذي لاقى اعتراضًا كبيرًا من أساتذة علم الآثار.
ومن ناحيته قال الدكتور محمد حمزة الحداد عميد كلية آثار الأسبق وأستاذ العمارة والفنون الإسلامية كلية الآثار جامعة القاهرة، إن الرحالة ناصر خسرو وهو رحالة سني المذهب، حكى عن الدولة الفاطمية قبل الشدة المستنصرية، وحسب مشاهداته وصفها بأنها دولة ذات رخاء، ووصف عملاتها الذهبية واستقرارها، وأن الطعام والشراب فيها كان يوزع في بأواني مفضضة ومذهبة "ذات بريق معدني ذهبي وفضي" وغير هذا من مظاهر الغنى والرخاء، وذلك قبل الشدة المستنصرية بأعوام قليلة.
وأشار الحداد أن سبب الشدة هو انخفاض منسوب نهر النيل، والمصادر التي تحدثت عن الشدة وتصف ما جرى فيها جاءت بعد وقوعها بحوالي 300 إلى 400 عام أي أنها لم تشهد الحدث بل نقلت الروايات الشعبية عنه.
وأضاف أن الدراسات الأثرية القائمة على الحقائق والحقائق فقط، تقول إن ناصر خسرو وهو رجل سني أي بطبيعته ضد الدولة الفاطمية الشيعية، إلا أنه رغم ذلك نقل لنا مظاهر الأبهة والفخامة التي شهدها عصر المستنصر قبل الشدة، ثانيًا الشدة تم التغلب عليها بشكل محكم وسريع من خلال مجهودات بدر الدين الجمالي، الذي استطاع أن يسيطر على الأمور ويقر الأمن ويبني أسوار ضخمة ذات بوابات مهيبة، فهل من المعقول دولة أهلها يأكلوا بعضهم البعض ويرتضون على أنفسهم أكل الحمير والقطط سيستطيعون أن ينهضوا مثل تلك النهضة؟.
وثالث الأسباب التي ساقها الحداد أن الآثار الآتية من عهد المستنصر سواء قبل أو بعد الشدة في منتهى الروعة، سواء نسيج من مختلف مراكز صناعته في مصر، أو عملات ذهبية، أو تحف عليها اسمه، فيصعب أن يكون رجل وصل به الحال وببلاده إلى المرويات التي وردت في المصادر أن تنتج هذا النتاج الحضاري الضخم، نعم قد تمر بشدة ولكن ليس لدرجة أن يأكل أهلها بعضهم البعض أو يأكلوا الحيوانات.
وأوضح الحداد أن السبب الذي جعل المبالغات تتسرب للمصادر قد يرجع إلى بعد الفترة الزمنية، والذي جاء كعامل مؤثر في تضخيم وتهويل حوادث تلك الشدة، وضرب مثلًا بأن ما وقع من أحداث مثلًا إبان حرب 67، بعد مائتي أو ثلاثمائة عام لو أنه لا تتوافر عوامل التوثيق الدقيق فسنجد تضخيمات ومبالغات كثيرة، والتوثيق الدقيق لم يكن متوافر في تلك العصور، والمصادر التي كتبت عن الشدة جاءت بعدها بحوالي 300 أو 400 عام، لذلك يجب أن نخضعها للنقد الدقيق من خلال الدراسات الأثرية.
وساق الحداد سببًا آخر وهو أن المصادر تكتب عن دولة شيعية، وبالطبع كان هناك رغبة في تهويل كل خطأ أو حادثة وقعت في عصرها، والسبب الأخير الذي قاله الحداد إن المصادر في تلك العصور الغابرة كان يحلو لمؤرخيها وضع القليل من الإثارة على الحدث بحيث يجتذب ذهن القارئ بشكل أكبر بل في بعض الأحيان كان يضع المؤلف قصص مفبركة تحت عنوان استراحة أو لطيفة وهي ليست من الحقيقة الحقيقة بل هي من عند المؤلف.
وأضاف الحداد أن المقريزي تحديدًا معروف بمبالغاته وأنه كان يكتب أي رواية تُقال أمامه ولعل أبرز الأمثلة على ذلك قصة صائم الدهر اللي رواها على أنه كاسر أنف أبو الهول والحكاية غير حقيقة، وكذلك مبالغاته في حق الحاكم بأمر الله واضطهاداته للطوائف الغير مسلمة وفي الحقيقة هو اضطهد الجميع وكان له ايضصا إلى جوار ذلك إنجازات كثيرة.
وفي النهاية نستطيع أن نقول أن أحداث الشدة المستنصرية وقعت بالفعل ولكنها لم تبلغ تلك الدرجة التي ذهبت لها المصادر من أكل لحوم البشر والحيوانات، فقط هي شدة اقتصادية مرت بالشعب المصري في وقت لم يكن هناك من يوثق الأحداث بدقة، وعبر الزمن تناقلت عنها الأساطير التي توحي بمدى السوء الذي وصلت له أحوال الشعب، ولكنه استطاع أن ينهض تحت قيادة بدر الجمالي الذي استعاد السيطرة على الأمور خلال فترة قصيرة.