تفسير الشعراوي للآية 46 من سورة الأنفال
تفسير الشعراوي للآية 46 من سورة الأنفال
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46)}
وعرفنا من قبل أن طاعة الله تعالى تتمثل في تنفيذ ما أمر به في المنهج، وطاعة الرسول هي طاعة تطبيقية في السلوك، وهي طاعة لله أيضاً؛ لأن الرسول مبلغ عن ربه، ولابد للطائع أن يتعبد عن التنازع مع إخوته المؤمنين؛ لأن التنازع هو تعاند القوي، أي توجد قوة تعاند قوة أخرى، والقوى المتعاندة تهدر طاقة بعضها البعض، فالتعاند بين قوتين يهدر طاقة كل منهما فتصبح كل قوة ضعيفة وغير مؤثرة. فكونوا يداً واحدة؛ لأنكم إن تنازعتم فستضيع قوتكم وتقابلون الفشل، أي لن تحققوا شيئاً مما تريدون لأنكم أهدرتم قوتكم في التنازع، ولم تعد لكم قوة تحققون بها ما تريدون وستذهب ريحكم في هذه الحالة. والفشل هو إخفاق الإنسان دون المهمة التي كان يرجوها من نفسه.
وانظروا إلى عبارة الحق تبارك وتعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
نحن نعرف أن الريح يُطلق على الهواء الذي حيزه الفضاء على سطح الأرض، إذن فمكان الهواء هو أي مكان خال على سطح الأرض، ولذلك نجد العمود المكون من الأسمنت والحديد مثلاً، لا يوجد فيه هواء لأنه لا يوجد فيه فراغ، أما الفواصل التي بين الأعمدة فيوجد فيها هواء لأن فيها فراغاً. ونعلم أن مقومات الحياة طعام وشراب وهواء، ولكن الهواء هو المقوم الأول للحياة؛ لأنك لا تستطيع أن تصبر على الهواء مقدار شهيق وزفير.
إذن فالهواء هو المقوم الأول لحياتك وحياة كل من في هذا الكون، وما دام الهواء محيطاً بالشيء بحيث يتساوى الضغط من جميع نواحيه يكون الشيء ثابتاً، فإذا فرّغت الهواء من ناحية قام ضغط الهواء بتحطيم هذا الشيء، وفي التجارب المدرسية شاهدنا تأثير ضغط الهواء، وكانوا يأتوننا بصفيحة وضع فيها ماء ويتركونها تغلي على النار، فيطرد بخار الماء الهواء الموجود في الجزء الفارغ من الصفيحة ليملأ البخار هذا الفراغ، ثم يغلقون الصفيحة بإحكام ويسكبون عليها من الخارج ماءً بارداً؛ فيتكثف البخار، ويقل حجمه، ويصبح جزء من الصفيحة خالياً من الهواء، فتنهار جدران الصفيحة إلى الداخل بسبب ضغط الهواء خارج الجدران، وتفريغ الهواء داخل الصفيحة. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما يعذب قوماً أو ينزل بهم عقاباً، فهو يرسل عليهم ريحاً. ويقول جل وعلا: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 6-7].
وكذلك نجده سبحانه وتعالى يقول: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24-25].
وأيضاً يقول الحق سبحانه عن الريح التي تغرق بأمواجها العالية: {إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22].
إذن فكلمة ريح تعبر عن القوة المدمرة للهواء؛ لأن الريح إذا اتحدت قوتها واتجاهها أصبحت مدمرة. ولكن إن قابلتها ريح ثانية فالتوازن يحدث بين القوتين. ولذلك حين يستخدم الحق كلمة الريح لا يتكلم عنها إلا للتخريب والتدمير. أما إن تكلم عنها للخير فسبحانه يأتي بكلمة (رياح)؛ لأن تعدد اتجاهات الرياح هو الذي يوجد التوازن في الحياة. فإذا أراد الله أن يهلك بالريح جاء بها من جهة واحدة فتصير قوة الريح من ناحية لا تعادلها قوة أخرى للريح من الجهة المقابلة لتتعادل القوتان. {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
أي أن الرياح تنقل اللقاح بين النبات، فيتم التلقيح وتنبت الثمار ويأتي الخير. ولكن هناك آية واحدة جاءت فيها كلمة (ريح) وكانت تحمل الخير في قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} [يونس: 22].
وسبحانه وتعالى عندما استخدم كلمة {ريح} في هذه الآية وصفها بأنها {طَيِّبَةٍ}. وهنا في الآية سبحانه وتعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
و(ريحكم) أي قوتكم؛ لأن الريح هنا معناها القوة التي تدمر عدوكم. ونعلم أن السفن في الماضي كانت تُبحر بقوة الريح. وعندما تقَّدم العلم وجاء البخار والكهرباء أُلِغي شراع المراكب واستخدم بدلاً منه ماكينات تدفع حركة السفينة.
وتطلق كلمة {الريح} على الرائحة، فيقال:(ريح عطرة)، وهذه الرائحة تبقى في المكان حتى بعد أن يغادره من استخدم هذه الرائحة، ولكل إنسان من رائحة خاصة، تماماً كما أنّ لكل إنسان بصمة خاصة، ولكننا لا نستطيع أن نميزها، ولكن الكلاب المدربة تميز الرائحة الخاصة بالإنسان، فيأتي الكلب ويشم رائحة الإنسان ويتتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه. أو يستطيع أن يخرجه من بين عشرات الأشخاص. ولا تختلط رائحة أحد بأحد رغم وجودهم في مكان واحد، وإلا لما استطاع الكلب المدرب لأن يميز رائحة شخص معين ضمن عشرات الأشخاص الموجودين.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يعني بأن تنتهوا ولا يكون لكم أثر؛ لأنه ما دام لكم أثر في الأرض فلكم ريح تميزكم. وتلك التي- كما قلنا- أن الكلاب المدربة تميزها، ولكن الإنسان إذا مات ودفن فلا رائحة له. ويدلنا القرآن الكريم على ذلك حين يتكلم عن قصة يوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته في الجب. وعثرت عليه قافلة، ثم اشتراه ملك مصر، ثم دخل السجن وخرج وأصبح هو عزيز مصر. وجاءه إخوته وأعطاهم يوسف عليه السلام قميصه ليلقوه على وجه أبيه يعقوب؛ ليرتد بصيراً، بعد أن أذهب الحزن بصره، يقول الحق عن خروج العير من مصر إلى الشام حيث كان يعيش سيدنا يعقوب: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94].
أي أن القافلة حين خرجت من بين المباني التي يمكن أن تكتم الريح بقوة كتلتها؛ لأن المباني لها إشعاعات قد تكتم الريح وتحجبه، وبعد أن صارت القافلة في الخلاء عرف يعقوب عليه السلام ريح ابنه يوسف من القميص الذي يحملونه: {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}.
ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 46].
وهذه تتمة الصورة التي يريدنا الله أن نلتفت إليها، فقد أمرهم الله أن يثبتوا في القتال، والقتال يحتاج إلى قوة وإلى عدم تنازع وإلى صبر على الشدائد؛ خصوصاً إذا كان عدوك صابراً شديد البأس.
إذن ففي المعركة يريد الله عز وجل من المؤمنين الثبات في القتال وعدم الفرار، وذكر الله كثيراً، وعدم التنازع حتى لا تضيع قوة المؤمنين، ويوصيهم سبحانه بالصبر؛ لأن عدوهم قد يكون عنده صبر وجلد، فلابد أن يمتلك المؤمن رصيداً من الجلد والصبر؛ يُمَكّنه من هزيمة عدوه، وصفة الصبر تدل على المنافسة. وهي مأخوذة عندما كانوا يغطسون في الماء، فالذي يبقى تحت الماء أكثر من الآخر يكون نفسه أطول. ولذلك فسيدنا عباس وسيدنا عمر- رضي الله عنهما- دخلا في منافسة في الغطس. وقال له: نافسني، أي لنرى من الذي سيمكث تحت الماء أكثر- ويكون {صابراً} أي يتحمل أكثر في المواقف الصعبة ويصبر صبراً فوق صبر الخصوم. وقوله الحق عز وجل هنا: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 46].
يثبت به سبحانه وتعالى أن كل مؤمن عليه أن يشعر أن الله تبارك وتعالى هو الذي انتدبه ليقوم بهذه المهمة القتالية وهو معه، فلا تخور نفسه؛ لأن الضعيف إذا ما تحصن بالقوي؛ أعطاه الجرأة والقدرة على الاحتمال، تماماً كالولد الصغير، إذا مشى في الشارع وحده قد يعتدي عليه الأولاد الآخرون، ولكن إذا كان يسير مع أبيه لا يقترب منه أحد، فما بالك بالإنسان الذي هو مع ربه؛ لذلك يوصي الحق كل مقاتل أن يتذكر أنه في معية ربه وأن أي حدث ضار في الكون لا يستطيع أن يناله مهما كان ضعيفاً لأن قوة الله معه.
ولذلك يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: (يابن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده.. أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه.. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟ قال يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي).
فإذا مرض إنسان فقد سُلبت منه العافية فلا يستطيع أن يسير ولا أن يتحرك، بل يرقد في فراشه ليتألم، ويوضح لنا الحق سبحانه وتعالى: أنا إن سلبت منه العافية، وهي نعمة فأنا عنده. ولذلك إياك أن تفزع إذا تركتك النعمة ما دام المنعم معك. والمريض المؤمن يستشعر أن الله معه.
وحين يكون المسلم في معيّة الله فإن مقاييس المادة والبشريات لا تجيء أبداً، والمثال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار، وقد جاء الكفار عند باب الغار فرآهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. هذا كلام منطقي مع النظرة المادية، فلو انحنى أحد هؤلاء الكفار ونظر من باب الغار لرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطمئن أبا بكر وينفي عنه ما جاء في باله من خوف أن يراهما الكفار. كان المفروض أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا اطمئن، إنهم لن ينظروا داخل الغار، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما وفي ذلك قال الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
وما دام الله ثالثهما تكون المعيّة موجودة، وإذا كنت في معيّة من لا تدركه الأبصار، أتدركك الأبصار؟. طبعاً لا تدركك أبصار الأعداء والخصوم. اللهم اجعلنا في معيّتك دائمًا.
ثم يكمل الحق سبحانه وتعالى ما يريد ألا يكون عليه المؤمنون في ساعات الشدة فيقول تبارك وتعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس...}.