عادل حمودة يكتب: شركات بيع الانتخابات لمن يدفع أكثر
«كامبريدج أناليتيكا» اخترقت بيانات 87 مليون أمريكى على الفيسبوك ليفوز ترامب ونجحت فى إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى
وشركة إسرائيلية شاركت فى انتخابات دول مختلفة متهمة بتدبير انقلابات بمساعدة ضباط فى المخابرات المركزية
فى ذلك اليوم ذهبت الديكتاتورية إلى صندوق الاقتراع وهى ترتدى مايوها من قطعتين اسمه الديمقراطية.
بتلك العبارة الساخرة وصف الكسندر نيكس المدير التنفيذى لشركة كامبريدج أناليتيكا يوم التصويت النهائى فى الرئاسية الأمريكية الأخيرة بين هيلارى كلينتون ودونالد ترامب.
بل أكثر من ذلك أضاف: لقد جئنا بآخر رجل يصلح رئيسا إلى البيت الأبيض بعد أن نجحنا فى السيطرة على مشاعر ملايين الناخبين بالريموت كنترول ليصوتوا لصالحه حتى تحققت المعجزة المستحيلة.
ويستطرد: ضحكنا على النظام السياسى الأمريكى وفرضنا عليه شخصا لا يؤمن بالديمقراطية ولا يعترف بالتعددية.
يومها عرفت الولايات المتحدة لأول مرة فى تاريخها نظام الشخص الواحد الذى يتصرف من رأسه ويؤمن بأنه ملهم ولا يعترف بخبرة أحد سواه ويكره الميديا التى تنتقده ويرى أنها يجب التخلص من قدرتها على كشف المستور ويغير مساعديه كما يغير ثيابه ويتحالف مع الشيطان ليظل فى السلطة ولو كان الأمر بيده لوضع صندوق الاقتراع فى غرفة نومه.
سجلت القناة البريطانية الرابعة تلك الاعترافات سرا للرجل النحيف الكتوم متورم العينين الكسندر نيكس وهو يتبادل مع رجاله نخب فوز ترامب بالرئاسة.
وما أن ظهرت الشرائط على شاشة القناة حتى تفجرت أكبر فضيحة عرفتها البشرية منذ أن تورط عشرات الملايين من الرجال والنساء فى نشر معلومات شخصية عنهم على شبكات التواصل الاجتماعى دون أن يخطر ببالهم أنه سيساء استخدامها فى الخفاء من وراء ظهورهم.
تأسست شركة كامبريدج أناليتيكا فى لندن عام 2013 حسب قانون الشركات الخاصة لتقوم باستخراج البيانات وتحليلها ليستفاد منها فى الانتخابات والاستفتاءات السياسية، وهو أمر مشروع يتيح للمرشحين التعرف على تصنيف الناخبين للتوجه إليهم ببرامج مناسبة.
بعد عام واحد شاركت الشركة فى 44 سباقًا رئاسيًا على مستوى العالم رفعت أسهم مالكها روبرت ميرسر ففتح مكاتب رئيسية للشركة فى نيويورك وواشنطن.
اشتهرت الشركة بقدرتها الرهيبة على جمع البيانات من خلال 5 آلاف وحدة رصد وبطريقة غير شرعية من منصات التواصل الاجتماعى باختراق حسابات 87 مليون شخص ومعرفة ما فيها حسب اعتراف مايك شروفر كبير مسئولى التكنولوجيا فى شركة فيسبوك.
ولكن صحيفة وول ستريت جورنال أثبتت بالوثائق أن جوجل باعت تلك البيانات للشركة ولم يجرؤ مارك زوكربيرج المسئول الأول فى جوجل أن ينكر الاتهام أمام الكونجرس بل أكد صحته.
وكان المثال الصارخ على تلك الجريمة انتخاب رئيس أقوى وأغنى دولة على ظهر الكون.
تعرف ستيف بانون ــ الرجل الأهم فى حملة ترامب ــ على الشركة من صديقه نايجل فراج واتفقا على ما هو أكثر من الدعاية لمرشحهم: تدمير سمعة منافسته.
تولت المهمة امرأة تجاوزت الثلاثين.. اسمها بريتنى كايزر.. متوسطة الجمال.. بدأت حياتها العملية ناشطة فى المنظمات الحقوقية.. ولكن ظروفها الصعبة دفعتها لتقديم خبراتها للشركة.. وحسب ما اعترفت فيما بعد فإنها كانت تضع فى حقيبتها مفتاح شقة بانون فى واشنطن حيث كانت الاجتماعات الخفية تعقد هناك.
صممت الشركة صورا مركبة (فوتو كولاج) لـ هيلارى كلينتون مستوحاة من أساطير الساحرة الشريرة بدت فيها عجوز شمطاء بجانب عبارات مثل: امرأة قاتلة.. امرأة مخربة.. امرأة مصيرها السجن.
وبثت تلك الدعايات السوداء على الفيسبوك والتويتر للملايين الذين اخترقوا حساباتهم واستولوا على بياناتهم فى حملة غير أخلاقية.. استخدم فيها الذكاء الصناعى.. وتلاعبوا نفسيا وعقليا بأمة كاملة.. وبعد أن تحقق الهدف وفاز ترامب ارتفعت قيمة الشركة إلى أكثر من مليار دولار ولم تزد قيمتها عند تأسيسها عن 15 مليون دولار.
ولكن على الجانب الآخر نشرت القناة الرابعة فى بريطانيا سلسلة تحقيقات صورتها بكاميرات سرية ظهر فيها الكسندر نيكس وهو يتفاخر بدوره الكبير فى التأثير على الانتخابات الأمريكية ولكن الأخطر أنه اعترف بإرسال عاهرات إلى مرشحين فى 200 حملة انتخابية أخرى بقصد الإيقاع بهم لصالح خصومهم: وقد عملن بطريقة محترفة على حد قوله.
وعلى سبيل المثال تولت الشركة تشويه سمعة المعارضين فى سيرلانكا بفتيات من أوكرانيا قمن بتصويرهم فى أوضاع مخجلة أما الشخصيات التى تماسكت أخلاقيا فقد عرض عليها رشاوى مالية مغرية لتنسحب من سباق الانتخابات.
وفى حملة ترامب يعترف نيكس باللجوء إلى أنشطة غير مشروعة قانونا واستخدمت ما يعرف برسائل البريد الإلكترونى الموقوتة أى التى تختفى فور قراءتها حتى لا تترك أدلة تدين الشركة فيما بعد.
المفاجأة فى تحقيقات القناة الرابعة أن بريتنى كايزر ظهرت فيها لتكشف ما خفى من دور الشركة فى حملة ترامب بعد أن استيقظ ضميرها وعادت إلى صوابها وقدمت استقالتها.
وبجانب نجاحها فى حملة ترامب نفذت الشركة حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ونجحت فيها ووضعت الإمبراطورية العريقة فى موقف لا تحسد عليه وأصبح على رئيس حكومتها الجديد بوريس جونسون أن يرد اعتبارها.
تولت اللجان المتخصصة فى البرلمان البريطانى والكونجرس الأمريكى التحقيق فيما نسب للشركة بعد أن قدم نيكس استقالته عقب بث تحقيقات القناة الرابعة.
وامتدت التحقيقات إلى المدعى العام فى واشنطن الذى قرر مقاضاة شركة فيسبوك لمعاقبتها بسبب دورها فى فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا التى انتهت من الوجود تماما.
أفضل ما فى هذه القصة أن مواطنا أمريكيا رفع دعوى قضائية فى بريطانيا ضد الشركة ليسترد منها ما اغتصبت من بيانات شخصية تخصه وحكم القضاء له بما طالب به.
ولكن لو كانت تلك الشركة قد خرجت من السوق بعد أن كشفت فضائحها فإن هناك شركات أخرى مشابهة لا تزال تلعب بنفس الطرق الخفية.
منها شركة إسرائيلية دولية للاستشارات القانونية والاستراتيجية.. مقرها الرئيسى فى القدس.. ولها فرع فى لندن.. وعلى صفحتها الرسمية فى شبكة الإنترنت كتب أنها سبق وإدارات عمليات انتخابية فى قبرص وإيران والكونغو وإسرائيل والولايات المتحدة وكينيا ومنتونيجرو (أو جمهورية الجبل الأسود التى تقع فى جنوب أوروبا بالقرب من صربيا).
يمتلك النصيب الأكبر من الشركة أهارون شتيف (40 سنة) وهو المستشار الاستراتيجى لحزب الليكود وسبق أن أدار حملة نتانياهو (2015) التى أسفرت عن فوزه وكانت تكاليف الحملة 413 ألف شيكل (نحو 100 ألف دولار).
قبل ذلك بنحو 4 سنوات فاز شتيف بجائزة النجم الصاعد التى تجريها سنويا المجلة الأمريكية «كامبنى أند اليكشن» وتمنح للأشخاص تحت 35 سنة وحققوا نجاحات مؤثرة فى مجال الحملات الانتخابية.
ولكن تلك الجائزة لم تمنع شتيف على ما يبدو من سوء استعمال خبرته الاستراتيجية فى تغيير سياسات وموازين القوى فى الدول التى تلجأ إليها والدليل على ذلك القضية التى رفعتها ضده فى محكمة دولية حكومة الجبل الأسود اتهمته فيها بتكوين منظمة إرهابية ودعم محاولة انقلاب على السلطة الشرعية فى عام 2016 لصالح حزب المعارضة المسمى (الجبهة الديمقراطية) المؤيدة لروسيا وغير الراغب فى انضمام البلاد إلى حلف الناتو. وكشفت التحقيقات الجنائية أن عناصر المعارضة حاولوا اقتحام البرلمان وقتل رئيس الجمهورية ولكن المحاولة فشلت بعد تراجع البعض عن تنفيذ الخطة فى اللحظات الأخيرة.
وأكدت الحكومة هناك أن المؤامرة دبرها شتيف واستعان لتنفيذها بخمسة من عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية رأسها ضابط اسمه جوزيف أسد.
وهكذا كشفت شركة أخرى تتاجر بالانتخابات وتسوق أصوات الناخبين لمن يدفع أكثر دون اعتبار لأخلاقه الإنسانية ولتوجهاته السياسية ما يعنى سوء استعمال للديمقراطية لتوصيل من لا يستحق إلى السلطة.
ولا شك أن التطور التكنولوجى غير المستوعب خطورته من غالبية البشر ساهم فى ظهور تلك الشركات المقدر عددها بنحو 130 شركة كبرى فى ذلك المجال بخلاف شركات صغرى تأكل فتات موائدها الشهية.
وسوف يزيد عدد تلك الشركات وربما وجدت فرصة للعمل فى عالمنا العربى والإفريقى مما يعنى أن المنطقة التى نعيش فيها دخلت حزام استعمال البيانات الشخصية لمستخدمى شبكات التواصل الاجتماعى استخداما سياسيا ربما يصب فى غير المصلحة الوطنية.
وبظهور تلك الشركات القادرة على استخدام وتحليل بيانات الملايين المؤثرة فى كل أمة تراجع تأثير شركات العلاقات الدولية التى كانت الدول والمؤسسات تلجأ إليها للتأثير فى صانع القرار وربما انقرضت خلال سنوات قليلة.
والدليل على ذلك فشل كثير من شركات اللوبى فى الولايات المتحدة أن تضمن استمرار قوانين حمل السلاح هناك ولكن شركة كامبريدج أناليتيكا نجحت عندما نظمت حملة لصالح تجار السلاح فرضتها على السوشيال ميديا بعد أن درست نفسية ملايين الأمريكيين الذين اخترقت حساباتهم.
لقد تغير تأثير الميديا من زمن إلى زمن.
فى القرون الوسطى نجح المصلح الدينى مارتن لوثر فى القضاء على النفوذ القوى للكنيسة باستخدام ميديا المطبعة بنشر 100 خطاب تنويرى وزعت من كل خطاب مئات النسخ مما أوصل الأفكار العلمانية إلى ملايين من البشر فى أيام معدودة ولم يمر سوى عامين على ظهوره حتى بدأ نفوذ رجال الدين المسيحى فى الانكماش حتى ضعف تماما بعد أن ساد شعار: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
وما أن ظهر هتلر على سطح الحياة السياسية حتى اكتشف ميديا الراديو واستغلها بما أضعف ميديا المطبعة وحصرها فى وظائف غير مباشرة. ولا شك أن جمال عبد الناصر استخدم الراديو فى الوصول إلى الملايين بسهولة وكان يكفى أن يسمعه الناس الغاضبة حتى تهدأ تماما فقد كان الأكثر براعة فى إلقاء الخطب عبر الأثير الإذاعى.
ولكن أنور السادات استخدم ميديا التليفزيون وعندما شاهدنا هبوطه فى إسرائيل ــ عبر الأقمار الصناعية ــ ونحن فى غرف نومنا أصبحنا شركاء فيما فعل.
إنه - حسب هيكل فى كتاب خريف الغضب -ـ أول فرعون جاء إلى شعبه مسلحا بالكاميرا وشاء القدر أن يغتال أمام الكاميرات.
على أن ترامب أول من استخدم ميديا التواصل الاجتماعى وإن تعكر صفو ما فعل بلجوئه إلى شركة انتخابات سيئة السمعة جعلت فوزه محل شك.
ومهما كان نفوذ تلك الشركات فإنها لن تفلح فى تنفيذ خططها السوداء السيئة والمدمرة والمتعسفة والمغرضة إلا باستخدام البيانات التى تضعها بنفسك على السوشيال ميديا وأنت سعيد بما فعلت.
إنها جريمة كبرى كل منا شريك فيها بصوته.