محمد سمير يكتب: رحيلٌ دون عوض وفُقدانٌ دون بديل
إنّهم ينفرطون كالعِقد، يذهبون واحداً تلو الآخر دون رجعة، يتخطفهم الموت ليقضي عليهم، ويتركنا نحن متشبعين بالآلام، نصبح وكأننا أشباحاً دون روح، في زمن لا يعترف إلا بالماديات، بينما نصّب للروحيات أعواد المشانق.
فنانون كبار على اختلاف مجالاتهم يرحلون دون استئذان، نفقد منهم كل يوم، تُسكب معهم العبرات، يَقتلون معهم المشاعر، يتركون قلوباً تملؤها الحسرة، يغرُبون عن وجوهنا وقد تركوا فراغاً في كل شيء، كلامهم الذي كان ينتمي لزمانهم الرقراق، وملامح وجوههم التي تشبعت بأحداث الماضي الجميل، الذي جَسّدته أعمالهم الفنية الراقية، التي يَرِق لها القلب وقد لَفِظَ كل جديد وحديث يُكّرس قُبح الأيام.
أهربُ دائما إلى الذاكرة لأعيش بين صفحات القديم، هناك نستمع، بل نعيش، بل نُبحر، وكأننا في سفينة يسودها الهدوء، تقودها سيمفونية عطرة، تجد معها الحكمة، وعظمة الكلمة، تتعرض للجمال بكل أشكاله وألوانه، هناك الماضي بكل روعته وتفاصيله الدقيقة، ترى واقعك الحالي وأحداثك التي تعيشها، وقد تنبأ بها هؤلاء العباقرة قبل الاصطدام بالواقع الأليم.
ربما يبكيك مشهداً يجسّدُ موقفاً حياتياً معيناً، تراه اليوم واقعاً أمام عينيك وقد ازددت ألماً، أو كلمة كُتبت بمداد الذهب، وتشبعت بروح الإخلاص، تنزل غضة طرية على أُذنك، بينما تحتل قلبك في لحظات، أنت حينها لا حول لك ولا قوة، لا تملك إلا أن تُقلب كفيك، وتعيش الصمت، وتكتفي بالانبهار، وتعلو.. يا لروعة الماضي ولوعته!
عالم خاص يستهوي أصحاب القلوب الحية، هنا في الشارع أو بين أحضان قريتك أو بلدتك، لا يوجد أحد إلا وله العمّ فلان، الذي تعلوه البسمة الرقيقة، والأمل مع الضياع، وحلو الكلام مع مرارة الأحداث والأيام، يمثل رابطاً روحياً لك بما في الكلمة من معاني، تتخذه صديقاً تلجأ له وقت الشدائد، تسمع منه درر الليالي، أنت في صراع كبير، تريد أن تنهل الكثير والكثير، لكن الموت يرقب هذا العجوز من قريب، لتنتهي القصة في لحظات، وليعلو الجميع بصوته، مات ذو الابتسامة الصافية، وحينها يبكيه الأصدقاء والأقارب وعلى ألسنتهم الجملة المعتادة "الطيبون يرحلون سريعاً".
لم يلبث العمّ فلان أو الجدة فلانة أو الجد فلان، إلا وذهبوا سريعاً تاركين أرواحنا تُكابد التعب، لقد لاحقهم هادم اللذات في دقائق، حرمنا الخير الوفير الذي راح معهم، ودُفن في قبورهم، وسَكَن أضرحتهم، تاركين وراءهم أياماً متحجرة خَرِبة، زادتها القسوة سوءاً.
يعيش المجتمع مفترق طرق، تلحقه عمليات الإحلال والتجديد، جيل بأكمله ينفضُّ مختلفٌ تماماً عن الأجيال الحالية، عاش جمال الأيام ونصاعتها، تربى أكثره على الإخلاص، من يذهب يقطع بمن حوله، بينما من يبقى يستغرب حاله وسط هؤلاء الغربان الغرباء.
أجيال تذهب وتأتي، وهانحن نعيش بين أردأ أنواع البشر في المعظم، تشبّع أكثره بزيف هذه الأيام، حُرم الكثير من الأخلاق، يعيش على النفاق وسوء النوايا، يسوقوهم الكبر والعناد، ينسى ماضيه الفاخر وينقطع عنه انقطاع من تنصّل من أهله، ليعاقبنا ذاك الماضي العريض بالتخلي تائهين، نسيرُ إلى حتفنا، جزاءً على جفاءنا وإهمالنا إياه.