د. رشا سمير تكتب: كلمنى شكرا..
«حمادة» طفل وحيد لأب وأم كان الإنجاب عقبة فى بداية زواجهما، فكان يوم ولادته بمثابة فرح للعائلة، فرح استمر للأبد!..
طفل مطيع، مدلل، يمتلك كل شىء وكل أحلامه مجابة، سليل عائلة عريقة، أب له شأن سياسى واجتماعى كبير، وأم سيدة صالون من الطراز الأول.
حين وصل حمادة إلى السن التى تسمح له بدخول المدرسة، انصب كل تفكير الأم فى اختيار مدرسة من مدارس أولاد الذوات، مدرسة تسمح لها بالفشخرة وسط صديقاتها متى يجتمعن فى النادى أو فى فقرة الساحل (حين تصبح الفشخرة واجبًا لا مفر منه)!
لم يكن دخول المدرسة التى اختارتها الأم أمرا سهلا..سأل الأب معارفه ماذا يفعل؟ وجاءه الرد:
«خللى حد يكلم أصحاب المدرسة، الموضوع يخلص بتليفون».
ولم تنس الأم فى خضم معركة التعليم أن يلتحق ابنها لاستكمال الوجاهة بمدرسة التنس بنادى أولاد الذوات..ولكن دخول الفريق لم يكن سهلا..سبعون لاعبا فى المدرسة والفريق عشرة لاعبين فقط..
«وإيه الحل؟»
سألت الأم مدير مكتب زوجها..فرد على الفور:
«تليفون يا هانم لمدير النادى يدخل حمادة الفريق فورا ومن غير مدرسة كمان، ابننا يستحق».
ردت الأم:
«بس فى مشكلة صغيرة، هو مش بيعرف للأسف يمسك مضرب يا حبيبى علشان إيده ضعيفة».
«وماله يا هانم، هو محتاج المضرب فى إيه!».
تخرج حمادة فى مدرسة أولاد الذوات وأصبح كل ما يتمناه من الحياة أن يلتحق بأكبر جامعة فى مصر..بالطبع جامعة أولاد الذوات!.
لكن وعلى ما يبدو أن أولاد الذوات كان عددهم يفوق عدد المقبولين بالدفعة، والحقيقة أن مجموع حمادة لم يسمح له بتلك المنافسة الشريفة..
سأل الأب ماذا يفعل؟ وجاءه الرد:
«تليفون يا باشا لرئيس الجامعة يعمل له استثنى فورا، ده طالب رياضى!»
صحيح.. رياضى أو معاق! هذا لا يهم..فالتليفون هو الحل..
تخرج حمادة فى الجامعة مهندس كمبيوتر..فى نفس الوقت الذى تم ترشيح أبيه لمنصب كبير يضمن له المزيد من القوة والمال والنفوذ..
بعد التخرج، وضع حمادة عينه صوب شركة استثمارية كبرى للكمبيوتر، وحيث إنه بالفعل يمتلك المال، فقد توقف طموحه عند مكتب فى شركة ومرتب مضمون ودرجة وظيفية تسمح له بممارسة نشاطاته المعتادة من جيم وسينما وساحل..
فى أحد الأيام نشرت الشركة إعلانا بالجريدة عن حاجتها لمهندس كمبيوتر..تقدم لها خمسة وعشرون شابا، من ضمنهم حمادة الذى رسب طبعا فى المقابلة الشخصية مع سابق الإصرار والترصد!.
«ألو.. مساء الخير يا باشا، أنا والد المهندس حمادة اللى أتقدم للوظيفة بتاعتكم..بصراحة الولد مجتهد وشاطر بس يوم الامتحان كان تعبان وعنده حرارة ووقع فى إيد شخص من عندكم الواضح إنه كان منفسن وغيران منه فقرر يسقطه.. والبركة فى حضرتك بقى».
قضى حمادة خمس سنوات فى الشركة، متنقلا بين إداراتها المختلفة عله يتعلم أو يستفيد، والخلاصة لا شىء.. لم يتعلم سوى التزويغ والبلطجة!.
إلى أن كان يوم عاد فيه حمادة إلى البيت منزعجا بائسا وقال لأبيه:
«تصور يا بابا اسمى لم يُدرج فى كشوف الترقيات..وبقى لى ٣ أشهر ما اخدتش ولا علاوة، أنا بجد محبط جدا، دول رقوا ناس فاشلة».
ثار الأب..هاج وماج..وأمسك بهاتفه المحمول..
«ألو.. معقول يا معالى الوزير أن الولد ييجى لى البيت محبط كده، ده أمه ما بطلتش عياط من ساعة ما رجع، مش كفاية أن الولد ما سافرش الساحل بقى له أسبوعين علشان الشغل..وبعدين إزاى يرقوا الجرابيع وهو لأ.. الله يبارك لك خلص علشان نفرح الولد».
وتتم ترقية حمادة.. مرة..اتنين.. ثلاثة.. وللأبد..
لم تنته قصة حمادة عند هذا الحد، لأن حمادة ليس شخصا ولا مجموعة أشخاص، بل هو نموذج لطريقة تُدار بها معظم الأماكن فى مصر..أنت تملك مجموعة أرقام على هاتفك المحمول يساوون نفوذك وعلاقاتك، ومن ثم فقدرات البشر أصبحت تُقاس بقوة التليفون.. هكذا أصبحت مصر طاردة للكفاءات والشباب وأصحاب المبادئ والضمائر.
يجب أن نعترف أننا جميعا أصبحنا نستقوى بمعارفنا، فأصبح اللجوء إلى الطرق الخلفية أسهل بكثير من الطرق المستقيمة..هكذا فرض علينا زمن الواسطة والمحسوبية.
بالأمس كان مقياس النجاح هو الاجتهاد، فكانت مصر رحمًا قادرة على إنجاب صف ثانٍ وثالث من الناجحين والمتميزين..أما اليوم فقد انزوى المحترمون وأصبحت الساحة خالية أمام الفاشلين والمتسكعين..عل الغد يصبح أكثر إشراقا فقط لو حاولنا تغيير ما بأنفسنا..