بطرس دانيال يكتب: الكبرياء أصل كل بلاء
«فقالت مريم: تُعظِّم نفسى الربَّ وتبتهج روحى بالله مخلّصى، لأنه نظر إلى تواضع أَمَتَه.. كَشَفَ عن شدّةِ ساعِدِه فشتَّت المُتكبّرين فى قلوبهم. أنزَلَ الأقوياء عن العُروش ورفع المتواضعين» (لوقا 46:1-52).
الكبرياء رذيلة مُدمّرة لصاحبها! مما لاشك فيه أن كل شخصٍ منّا يحمل بذرة الكبرياء فى قلبه منذ الطفولة، ولكن لماذا يتعالى الإنسان على غيره ويحتقره؟ ماذا يملك فى هذه الدُنيا الفانية يستطيع به أن يطأ الآخرين؟ هل يقدر أن يتفاخر بعلمه وذكائه ودهائه وماله؟ مَن يستطيع أن يتباهى بقامته وجماله، أليس أدنى أذى يشوّه هذا الجمال ويُفسده؟ والذى يظن نفسه أفضل من الجميع؛ فقد يكون أشر منهم فى نظر الله فاحص القلوب والكُلى. يصف الكاتب الإيطالى Luigi Santucci فى أحد أشعاره المتكبّر هكذا: «أنه مثل الدودة الحلزون (يُطلقون عليها البصّاقة) التى تتباهى بذاتها، عندما صعدت إحدى المسلاّت الفرعونية، ونظرت إلى سيل لعابها قالت: بكل تأكيد سأترك بصمة فى التاريخ». فالمتكبّر هو شخص مُعجب بذاته سواء مدحه الناس أو لم يمدحوه لمواهب يمتلكها أو لخيرٍ قام به، فيحاول أن يعوّض بنفسه عن تجاهل الناس له، فيسعى إلى الزهو والافتخار بشخصه أمام الجميع. يُحكى أن رجلاً وابنه كانا يسيران فى الطريق، وعندما وصلا أحد الحقول قال الابن لأبيه: «انظر يا أبى تلك السنابل الشامخة إلى العلاء التى تتهادى مع النسيم، مما لاشك فيه أنها تعتز بكثرة ثمارها وتفتخر بجمال سنابلها، ولكن تلك المنحنية التى تميل برأسها مُنكّسة إياها نحو الأرض، فهى فى شدّة الخجل من قلّة ثمارها!» فأجابه والده: «إن الأمر عكس ما تعتقد تماماً، لأن السنابل الشامخة، لم ترتفع بسبب ما تحمل من ثمار؛ ولكن لأنها خفيفة فارغة جوفاء لا ثمر فيها، بخلاف تلك المنحنية نحو الأرض فهى مثقلة بالحنطة الكثيرة». فقيمة الإنسان ليست فى إعجابه بذاته أو مديح الناس له بالتملّق؛ بل فيما يأتيه من أعمالٍ صالحة وفاضلة وخيّرة. مَن ينكر أن الكبرياء هو أصل كل بلاء وشقاء لأنه يدفع صاحبه إلى ارتكاب الشرور، وكل مَن يُصاب بهذا الداء يتعامل مع الآخرين بالافتراء والطغيان، حتى أنه يتباهى بفرض سلطانه وجبروته وقوته على الآخرين. والإنسان المتعالى فارغٌ يُحدث ضجيجاً كالإناء الخاوى من كل شىء، ويُحيط نفسه بهالةٍ كاذبة متخيّلاً ذاته الآمر والناهى، متناسياً أن كل حياتنا بيد الله خالقها وواهبها وحاميها. والمتكبّر يتصور أنه مانح العطايا لمن يشاء ومانعها عن غيره حسبما يتراءى له، كما أنه يتلذذ باستعباد الناس وخضوعهم له. والإنسان المتعالى يُثير الضحك فينا لأنه يعتقد أن العالم كلّه سيخسر كثيراً إن لم يستمع لنظرياته وآرائه ويعمل بها، أو أن العالم لا يُقدّر أعماله، والويل لمن يعترضه أو لم يُعجب بقدراته. ذات يوم كان عازف البيانو والمؤلِّف الموسيقى الشهير Moritz Moszrowski يسير فى شوارع ڤيينا مع صديقه الروسى ألكسندر جلازنوڤ وعندما وصلا لمنزل الموسيقار النابغة فرانز شوبرت، شاهدا لوحةً تذكارية باسمه لتخلّد تاريخه، فقال جلازنوڤ لصديقه عازف البيانو: «هل تعتقد أنهم بعد موتى سيضعون لوحة تذكارية مشابهة على باب شقتى؟» أجابه الموسيقار: «طبعاً!» فسأله: «وماذا سيكتبون عليها؟» أجاب عازف البيانو: «شقة للبيع». إذاً نتعلّم من هذا الموقف معرفة قدر ذواتنا، وهذا يتطلّب منّا شجاعة أدبية. مَن منّا لا يشعر بالسعادة والرضا عندما يمدحه الناس؟! لكن الغالبية العُظمى لا تهتم إن كان هذا المديح فى مكانه أم لا، أو إذا كان صادقاً يعبّر عن واقع ملموس أو مجرد مجاملة ساخرة وتملّق فاضح، كما أن البعض الآخر بالرغم عِلمهم الواضح بأنهم لا يستحقّون هذا المديح الذى يُقال فيهم؛ إلا أنهم يقبلونه معتبرين إياه سلاحاً وحجةً لإخفاء عيوبهم والتغاضى عن نقائصهم ويرضوا عن ذواتهم، ويصل بهم الحال إلى العمى الكامل عن أخطائهم. بينما المتواضع يعلم جيداً ما بداخله خيراً كان أم شراً. وفى هذا الصدد يقول أحد آباء الكنيسة: «إن كنتَ مغروراً فأنت شيطان، وإن كنتَ حزيناً فأنت ابنه، وإن كنتَ مهتماً بأمورٍ كثيرة فأنت خادِمَه». فالإنسان يستطيع أن يرتفع بنفسه ويرفع رأسه إذا تحلّى بالأخلاق، ولا يفقد وداعته ولا يخسر روح تواضعه وينحنى لله الذى وهبه كل ما يملك شاكراً له جزيل نِعَمه. ونختم بقول الكاتب الإنجليزى ﭼورﭺ أليوت: «لقد خُيّل له الغرور ما تخيّله الديك حينما أشرقت الشمس، فظنّ أنها تشرق كل يوم لتطرب من صياحه».