شهداء غزوة أحد

إسلاميات

جبل أحد - صورة أرشيفية
جبل أحد - صورة أرشيفية


غزوة أحد من الغزوات العظيمة في أحداثها، الحافلة بالمواقف والدروس التي ينبغي على الأمة الإسلامية الوقوف معها للاستفادة منها، وقد وقعت في شهر شوَّال من السنة الثالثة من الهجرة النبوية، وذكرها الله عز وجل في نحو ستين آية من سورة آل عمران، واستشهد فيها سبعون صحابيّاً، سطروا بدمائهم وأرواحهم صفحات مضيئة في بذل النفس والروح في سبيل الله عز وجل، وقد نزل فيهم قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(آل عمران:169). قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار". وقال السعدي: "هذه الآيات الكريمة فيها فضل الشهداء وكرامتهم، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة"، وفي فتح القدير: "وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: في شهداء أحد، وقيل: في شهداء بدر، وقيل: في شهداء بئر معونة، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". وقال القرطبي: "وبالجملة، وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع، فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون".

دفن شهداء أحد في أماكن موتهم :

حمل بعض المسلمين قتلاهم إلى المدينة المنورة ليدفنوهم بها، فأتاهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بأن يُدْفَنوا حيث صُرِعوا، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أن قتلى أُحُد حُمِلوا من مكانهم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ردوا القتلى إلى مصارعهم) رواه أحمد. قال العلماء: هذا الأمر على الاستحباب، لا الوجوب، قال ابن قدامة: "ويستحب دفن الشهيد حيث قُتِل". وعن هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد أصاب الناس قرح (جرح) وجهد (تعب) شديد، فقالوا: كيف تأمر بقتلانا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا وادفنوا في القبر الاثنين والثلاثة، قالوا: يا رسول الله: من نقدم؟ قال: قدِّموا أَكْثرَهم قرآناً) رواه النسائي. وعن جابر رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحد قدَّمه في اللحْد) رواه البخاري، قال ابن حجر في فتح الباري: "وفي حديث جابر من الفوائد: جواز تكفين الرجلين في ثوب واحد لأجل الضرورة إما بجمعهما فيه، وإما بقطعه بينهما.. وجواز دفن اثنين في لحد، وعلى استحباب تقديم أفضلهما لداخل اللحد".

دفن عبد الله بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد :
عن جابر رضي الله عنه قال: (لما حضر أُحُدٌ دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا في أول من يُقتل من أصحاب النبي رضي الله عنهم، قال جابر: فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبر) رواه البخاري. قال ابن حجر: "والرجل الآخر: هو عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وكان صديق والد جابر". وفي رواية أخرى للبخاري قال جابر: (فكفن أبي وعمي (كأن جابرا سمَّى عمرو عمه تعظيما) في نمرة (بردة من صوف) واحدة). قال ابن حجر: "فإن ثبت حمل على أن النمرة الواحدة شقت بينهما نصفين".

دفن حمزة وعبد الله بن جحش في قبر واحد :
ذكر ابن هشام في السيرة النبوية وابن حجر في الإصابة وابن سعد في الطبقات: "ودفن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه مع ابن أخته ـ أميمة بنت عبد المطلب ـ عبد الله بن جحش رضي الله عنهما في قبر واحد". وكان الثوب الذي كُفِّن فيه حمزة رضي الله عنه إذا غُطِّيَ به رأسه رضي الله عنه ظهرت رجلاه، وإذا غطى رجلاه ظهر رأسه، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت (ارتفعت) عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر) رواه أحمد.

تكفين ودفن مصعب بن عمير :
كُفِّن مصعب بن عمير رضي الله عنه في بردة إذا غطوا بها رأسه ظهرت قدماه، وإذا غطوا قدميه ظهر رأسه، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: (هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئا (أي من عرض الدنيا)، منهم مصعب بن عمير، قُتِل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت (ظهرت) رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئا من إذخر (حشيشة طيبة الرائحة)) رواه البخاري.

كرامة الله عز وجل لشهداء أحد، وفضلهم وفضل غيرهم من الشهداء في سبيل الله :

ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله عَزَّ وَجَلَّ أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتهوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم، ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا (يرجعوا) عن الحرب، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(آل عمران:169)) رواه أبو داوود.
ـ وذكر الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء، وابن سعد في الطبقات عن جابر قال: "فدخل السيل قبرهما - أي قبر عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر وعمرو بن الجموح ـ لأنهما دُفِنا في قبر واحد - فحُفِر عنهما، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على جرحه، فأميطت (أبعدت) يده عن جراحه، فانبعث (اندفع) الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن (توقف) الدم. قال جابر: فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم، وما تغير من حاله قليل ولا كثير، فقيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: إنما كفن في نمرة خُمِّر (غطي) بها وجهه، وجعل على رجليه الحرمل (نبات)، فوجدنا النمرة كما هي، والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك ست وأربعون سنة". وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان أبي أول قتيل، ودفن معه آخر (عمرو بن الجموح) في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هُنَيَّة (لم يتغير)، غير أذنه) رواه البخاري، قال ابن حجر: "هنية: أي لم يتغير منه شيء إلا شيئاً يسيرا، وهي أذنه. ولا يعكر على ذلك ما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن محمد بن المنكدر عن جابر: أن أباه قتل يوم أحد ثم مثلوا به، فجدعوا (قطعوا) أنفه وأذنيه.. لأنه محمول على أنهم قطعوا بعض أذنيه لا جميعهما .. (فاستخرجته بعد ستة أشهر) أي من يوم دفنه، وهذا يخالف في الظاهر ما وقع في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو كانا قد حفر السيل قبرهما، وكانا في قبر واحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة، وقد جمع بينهما ابن عبد البر بتعدد القصة، وفيه نظر لأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر، وفي حديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة، فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أن السيل خرق أحد القبرين، فصارا كقبر واحد".

لقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة أحد أروع الأمثلة في البطولة والاستشهاد، وأثبتوا فيها صدق إيمانهم، وعظيم بذلهم وتضحياتهم، ويقينهم بما أعد الله للشهداء في الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ومنزلة شهداء أحد وغيرهم من الشهداء إلى يوم القيامة: (للشهيد عند الله سبع خصال: يُغْفَر له في أول دفعة من دمه، ويَرَى مقعده من الجنة، ويُحَلّى حلة الإيمان، ويُزَوُّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُجار من عذاب القبر، ويَأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويُشفَّعُ في سبعين إنساناً من أهل بيته) رواه أحمد، وقال ابن القيم: "الشهادة عنده ـ سبحانه ـ من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم".