سليم صفي الدين يكتب: "البقاء للأجمل"

ركن القراء

سليم صفي الدين
سليم صفي الدين


على مر التاريخ، حارب أعداء الجمال كل ما هو جميل ومبهج من الفنون كافة: الرقص، الغناء، الموسيقى، الكتابة، الرسم، النحت، المسرح... إلى آخره. وظل التاريخ شاهدًا على بقاء تلك التحف الفنية الجميلة، ولم يُذكَر أولئك الأعداء، ومن بقى منهم صار اسمًا فاقدًا لحجم تأثيره فى الناس بإبعادهم عن الفنون والجمال والرقىّ.

لفتت انتباهى جملة للصحفية النشطة "نهى وجيه" قالت فيها: "الشيخ كشك اللى كان نازل شتيمة فى أم كلثوم، مات وانتهى، وأم كلثوم لسة عايشة بصوتها وأغانيها". ذكرتنى هذه الجملة البديعة بالدكتور فرج فودة، عندما قال: "سيصرخون ضد الغناء وسيغنى الشعب، سيصخرون ضد الموسيقى وسيطرب الشعب، سيصرخون ضد التمثيل وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون وسيملأون الدنيا صراخًا وسترتفع أصوات مكبرات أصواتهم وستنفجر قنابلهم وتفرقع رصاصاتهم وسوف يكونون فى النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غاليًا حين يحتقرهم الجميع ويرفضهم الجميع ويطاردهم الجميع". 

الإشكالية التى نواجهها من هؤلاء الأشخاص تنحصر فى نقطتين، الأولى هى التطرف، وقد طرح الدكتور زكى نجيب محمود، سؤالاً فى هذا الشأن جاء على النحو التالى: "والتطرف فى الفكر والعقائد، ما هو؟" وأجاب: "هو أن تختار مَسْكنًا فكريًّا وعقائديًّا لتقيم فيه راضيًا عن نفسك، ولكنك لا تريد لغيرك أن يختار لنفسه ما يطيب له من فكر وعقيدة، بل تلزمه إلزامًا -بالحديد والنار أحيانا- أن ينخرط معك تحت سقف فكرى واحد". أى يمكننا القول إنها أحادية التفكير، ورفض التعدد، والتهديد والوعيد فى حال التمرد والانحراف عن المسار الذى يرسمه هؤلاء المتخلفون عن ركب الحضارة. 

أما النقطة الثانية فهى التقديس، تغليف كل باطل بغلاف دينى، كما قال ابن رشد، وعليه يصبح الباطل حقًّا، والحق باطلاً، فبدلاً من أن تكون الموسيقى غذاءً للروح تصير مزامير الشيطان، والغناء بدلاً من كونه حياة للروح يصير هلاكًا لها، والقراءة بدلاً من دورها فى ازدهار العقل تصير طريقًا للكفر والإلحاد والهرطقة! 
لا أعرف وصفًا لهذه الحالة أفضل من كلمة الدكتور على الوردى، فى شرحهِ لـ"الغباوة": "كلما ازداد الإنسان غباوة، ازداد يقينًا بأنه أفضل من غيره فى كل شىء!". 

فى مطلع الأمر، يبدو أنهم منتصرون، غير أن الأيام دائمًا تثبت العكس. نجيب محفوظ قال: "ما لا يرتاح له قلبك لا تثق به أبدًا، فالقلب أبصر من العين". وعليه تجد الناس يميلون إلى طربيات أم كلثوم، وعبد الوهاب وهو يغنى لأحمد شوقى: "ما بالُ العاذِلِ يَفتح لي بابَ السُّلْوانِ وأُوصِدُه؟ ويقول: تكاد تجنُّ به فأَقول: وأُوشِكُ أَعْبُده"، فضلاً عن اهتمام المصريين بالتماثيل والصور التى لطالما حاربها أولئك وقالوا إنها تمنع الملائكة من الدخول إلى البيوت، شأن تربية الكلاب التى صارت من هوايات الشباب المستحبة. يحرمون موسيقى عمر خيرت، التى لها منزلة كبيرة عند المصريين، فضلاً عن أفلام عادل إمام، وأحمد زكى، ومسلسلات يحيى الفخرانى، ومسرحيات الأستاذ فؤاد المهندس... إلى آخر هذه الإبداعات السنيمائية والدرامية والمسرحية، التى شغلت الناس بقضاياها التى ناقشتها، وأمتعتهم بأداء فنانيها. وهذا يأخذنا إلى نقطة ممثالة هامة، هى أن الفن قد يُصنَع منه الابتذال، والدليل أفلام البلطجة التى يتصدرها الفتى الأسمر المشبَّه خطأ وظُلمًا بأحمد زكى، وكذلك أغانى المهرجانات والشعبيات التى تلوّث السمع. ويستمر هؤلاء فى البقاء والتأثير، ينتجون من أغانيهم القميئة كل يوم أغنية ومهرجانًا، ومن أفلامهم الردئية فيلما كل موسم، ومن الدراما الرخيصة مسلسلاً كل موسم رمضانى.. وكل هذا ليس لشىء إلا لكيلا ينساهم الناس!

الابتذال ليس فنًّا، والفن أقوى من كل شىء، فالفنون دخلت فى حروب عبر التاريخ لم تخسر منها واحدة، فما بالكم من مجرد أشخاص يتكلمون باسم الرب الذى لم يوكل عنه أحدًا فى كل الأديان! 

مهما علا صراخ رجال الدين ضد الفنون، سيستمر الفنانون فى الإبداع والخلق والتكوين، ويبقى ما أبدعوه إلى الأبد، وتخلد أسماؤهم. ومهما صنع السفهاء من ابتذال وأسموه فنًّا، فإنه إلى زوال لا محالة، وهم معه لا بقاء لهم.

حارَبوا أم كلثوم، وما زالت حية. واجهوا نجيب محفوظ، وما زال باقيا. كفَّروا فرج فودة ونصر حامد أبوزيد، فرحلوا هم، وبقى ما تركه هذان العظيمان من معارك تحرير للعقول، ومن فلسفة تهدم تخلف وحماقة من واجهوهما.

علموا أولادكم الحب والسلام والغناء، علموهم الرقص، أخبروهم أن ابن عربى قال: "المكان الذى لا يؤنث، لا يعول عليه" فالمرأة ليس عورة، بل عقولهم المريضة هى العورة. علموهم أن الله يتجلى فى النغم، والموسيقى وحدها تعرف ماهية الروح. أخبروهم أن الوقوع فى الخطأ هو الطريق الصحيح لإدراك الصواب، وأن الخوف من الله لا ينتمى إليه، إنما الحب هو ذاته وكينونته وعين يقينه. كل قبيح سيرحل، والبقاء دائمًا للأجمل.