تفسير الشعراوي للآية 15 من سورة الأنفال
تفسير الشعراوي للآية 15 من سورة الأنفال
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ(15)}
ونعلم أن نداء الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين بقوله: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا}، إما أن يكون بعدها أمر بمتعلق الإيمان ومطلوبه، وإما أن يكون بعدها الإيمان نفسه، ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136].
وبعضهم يقول: كيف ينادى مؤمنين ثم يقول لهم: (آمِنوا)؟، وهؤلاء المستفهمون لمْ يلتفتوا إلى أن الحق حين يكلم المؤمنين يعلم أنهم مؤمنون بالفعل، ولكن الأغيار في الاختيار قد تدعوهم إلى أن يتراخى البعض منهم عن مطلوبات الإيمان. و(آمنوا) الثانية معناها: أنشئوا دائما إيماناً جديداً أي مستمراً يتصل بالإيمان الحاضر والإيمان المستقبل، ليدوم لكم الإيمان.
فإذا كان ما بعد {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا} أمراً بمطلوب الإيمان، من حكم شرعي، أو عظة أخلاقية. يكون أمرها واقعاً، والمعنى: يا من آمنتم بي إلهاً قادراً حكيماً، ثقوا في كل ما آمركم به لأني لا آمركم بشيء فيه مصلحة لي؛ لأن صفات الكمال لي أزلية، فخلقي لكم لم ينشئ صفة كمال، فإن كلفتكم بشيء، فتكليفي لكم يعود عليكم بالنفع والمصلحة لكم، وضربنا المثل- ولله المثل الأعلى منزّه عن كل مثل- أنت تذهب إلى الطبيب بعد أن تتشاور مع أهلك وزملائك وتكون واثقاً بأن هذا هو الطبيب الذي ينفع في هذه الحالة التي تشكو منها، وساعة تذهب إليه يشخص لك المرض ويكتب لك الدواء، وسواء استخدمت الدواء أم لم تستخدمه فأنت حر وأثر ذلك يعود عليك وعود استعمالك الدواء لن يضر الطبيب شيئاً، بل أنت الذي تضر نفسك، كذلك منهج الله الذي جعله لصلاحية حركة الحياة. إن اتبعته وطبقته تنفع نفسك، وإن تركته فلم تطبقه فسوف تضر نفسك، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
إذن فالاختيار لك والله سبحانه وتعالى قد خلقك، وخلق الكون الذي يخدمك من قبل أن توجد، وأنت طارىء على هذا الكون، طارىء على الشمس وعلى القمر، وعلى الأرض، وعلى الجبال، وعلى الماء وعلى أي شيء في هذا الوجود. والذي خلق ما سبقك لابد أن تكون له صفات الكمال المطلق. فهو سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء بالحكمة والنظام، وما دامت له سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق المستوعبة، فهو لا يطلب منك بالتكاليف أن تنشىء له صفات كمال جديدة، وهو غني عنك. فإذا اقتنعت بالإيمان فلمصلحتك أنت، ولم يكلفْك إلا بالأحكام التي تصلح من حالك. وحيثية كل حكم هو تصديره ب {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا}.
إياك أن تبحث عن علة في الحكم؛ لأنك لو ذهبت إلى الحكم لعلته، لاشتركت مع غير المؤمنين، فالمؤمن- مثلا- حين سمع الأمر باجتناب الخمر، امتثل للحكم لأنه صادر من الله، من بعد ذلك عرف غير المؤمنين- بالتحليل العلمي- أن الخمر ضارة فامتنعوا عنها، فهل امتناعهم هو امتناع إيماني؟ لا.
إذن فإن المؤمن يأخذ الأمر من الله عز وجل لا لعلة الأمر بل لمجرد أنه قد صدر من الله؛ لذلك يمتثل للأمر وينفذه.. فالمسلم يمتثل لأوامر الله ويؤدي العمل الصالح دون بحث أو تساؤل عن علته، فحين يقال- على سبيل المثال- إن من فوائد الصيام أن يذوق الغني ألم الجوع، ويعطف على الفقير، حين أسمع من يقول ذلك أقول له: قولك صحيح لأن فيه لمسة من فهم، لكن ماذا عن صوم الفقير الذي ليس عنده ما يعطيه لغيره، ألا يصوم أيضاً؟.
إن المؤمن يصوم لأن الأمر جاء من الله بالصيام. ومعظم أحكام الله تأتي مسبوقة بقوله: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا}، أي: يا من آمنتم بي إلهاً أقبلوا عليّ، فإنكم إن بحثتم عن العلة، ثم نفذتم الحكم لعلته فأنتم غير مؤمنين بالإله الآمر والمشرع، لكنكم مؤمنون بعلة المأمور به، والله يريدك أن ترضخ له فقط، ولذلك يأمرك بأوامر وينهاك بنواهٍ، فأنت- مثلا- حين تحج بيت الله الحرام، تسلم على الحجر الأسود بأمر من الله، وقد تتيح لك الظروف أن تقبِّل هذا الحجر كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت في كل ذلك لا ترضخ للحجر. بل للآمر الأعلى الذي بعث محمداً بحرب على الأصنام وعلى الأحجار، وأنت تتبع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنتهى التسليم والإيمان، وتذهب بعد ذلك لترجم الأحجار التي هي رمز إبليس. وتفعل ذلك تسليماً لأوامر الله تعالى التي بلغتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} [الأنفال: 15].
فما دمت قد آمنت بالإله، لابد أن تدافع عن منهج الإله؛ لأن هذا أيضاً لمصلحتك؛ لأنك بإيمانك بالله أيها المؤمن ينتفع المجتمع كله بخيرك، ولن يأمرك سبحانه إلا بالخير، فلن تسرق، ولن تزني، ولن تشرب خمراً، ولن تعربد في الناس، ولن ترتشي، وبكل ذلك السلوك ينتفع المجتمع؛ لأن المجتمع يضار حين يوجد به فريق غير مهتدٍ. وأنت حين تقاتل لتفرض الكلمة الإيمانية هلى هؤلاء، فهذا يعود إلى مصلحتك، ولذلك فإن اتصافك بالإيمان لا يتحقق إلا إن عديته لغيرك، ومن حبك لنفسك، أن تعدى الإيمان بالقيم التي عندك إلى غيرك لتنتفع أنت بسلوك من يؤمن، وينتفع غيرك بسلوكك معه، ومن مصلحتك أن يؤمن الجميع.
وحين يكلفك الحق تبارك وتعالى بالجهاد في سبيل الله فأنت تفعل ذلك لصالحك.
{يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} [الأنفال: 15].
وزحفاً مصدر زَحَف، والزحْف في الأصل هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر بالنصف الأعلى من الجسم. وتقول: (الولد زحف) أي تحرك من مكانه بنقل يديه وشد بذلك بقية جسمه. كما نقول: (حبا). أي استعمل الوركين والركبتين ليتحرك بجسده على الأرض، ثم نقول: (مشى) أي وقف على قدميه وسار، فتلك إذن مراحل تبدأ من زَحْف ثم حَبْو ثم مَشْى، والطفل يبدأ حركته الأولى بالزحف، بعد أن يتمكن من السيطرة على رأسه، ويمتلك القدرة على تحريكها بإرادته، ويقوى نصفه الأعلى، فيقعد، ثم يزحف، وبعد ذلك تقوى فخذاه فيحبو، ومن بعد ذلك تقوى الساقان فيمشي.
إذن قوة الطفل تبدأ من أعلى.
ولكن ما حكاية (زحفا) هنا في هذه الآية الكريمة؟ ولماذا لم يقل هًرْولوا إلى القتال؟. ونقول: إن الزحف هو انتقال كتلته لا ترى الناقل فيها، فمن يراها يظن أن الكتلة كلها تتحرك.
وكأن الحق تعالى يقصد: أريد منكم أن تتحركوا إلى الحرب كتلة واحدة متلاصقين تماماً فيظهر الأمر وكأنكم تزحفون. وزحفاً أصلها زاحفين، وقد عدل سبحانه وتعالى عن اسم الفاعل وجاء بالمصدر، مثلما نقول عن إنسان عادل: إنه إنسان عدل، أي أن عدله مجسم. ولذلك نجد الشاعر يقول عن الجيش الزاحف:
خميس بِشَرْقِ الأرضِ والغربِ زحفُه *** وفي أذنِ الجوزاءِ منه زمازم
والخميس هو الجيش الجرار، ويريد الشاعر أن يصوّر الزحف كأنه كتلة واحدة متماسكة ومترابطة، بحيث لا تستطيع أن تميز حركة جندي من حركة جندي آخر، حتى ليخيّل إليك أن الكتلة كلها تسير معاً. ومن يريد أن يتأكد من ذلك ندعو الله أن يكتب له الحج ويصعد إلى الدور الثاني من الحرم المكي الشريف ويرى الطائفين، ويجدهم ملتحمين جميعاً كأنهم كتلة واحدة تسير، ولذلك سمّوها (السيل).
و(سالت بأعناق المطي الأباطح).
مَثلُهم مثل السيل في تدفقه لا تفرق فيه نقطة عن أخرى.
والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هنا أن لقاء الكفار يجب أن يكون زحفاً أي كتلة واحدة متماسكة، فيصيب المشهد الكافرين بالرعب حين يرون هذه الكتلة الضخمة التي لا يفرق أحد بين أعضائها، وهكذا تكون المواجهة الحقيقية.
ويواصل الحق سبحانه وتعالى التنبيه فيقول: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} [الأنفال: 15].
أي لا تعطوهم ظهوركم، وهو سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].
ويريد الله أن يعطي صورة بشعة في أذن القوم؛ لأن (الأدبار) جمع (دبر) والدبر مفهوم أنه الخلف ويقابله القُبُل، وهذا تحذير لك من أن تمكن عدوك من ظهرك أي دبرك، لأن هذا أمر مستهجن، ولذلك نجد الإمام عليا- كرّم الله وجهه- يرد على من قالوا له إن درعك له صدار وليس له ظِهار، أي مغطى من الصدر، وليس له ظهر، وهنا يقول الإمام على رضي الله عنه: (ثكلتني أمي إن مكّنت عدوي من ظهري)، وكأن شهامة وشجاعة الإمام تحمله على أنه يترك ظهره من غير وقاية.
وفي قول الحق جل وعلا {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} تحذير من الفرار من مواجهة العدو.
ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ...}.