منى غنيم تكتب : خيال ردىء

ركن القراء

بوابة الفجر


تارانتينو، الباد بوي، الغول الذي اقتحم هوليوود منذ سبعة وعشرين عامًا شاهرًا في وجه الجميع خياله الردىء فخضعت له السينما ذليلة مكبلة وسمحت له أن يمارس ساديته معها، تارانتينو الذي لم يلتزم يومًا في حياته بقاعدة من قواعد النص، بل لم يلتزم بوجود نص أصلًا، كل مؤهلاته كانت الفرجة على أفلام ومنها انبثق حواره ودرامته العبثية مائة بالمائة؛ لا يوجد خط زمني للأحداث، لا توجد نهايات منطقية، لا يوجد تطور للشخصيات، لايوجد theme أو عبرة كما هو الحال في أي عمل أدبي أو مرئي، كل ما يمكن أن يحدث يحدث مع احتفاء غير طبيعي بالقوة والنفوذ والجنس والعنف فيما يسمى ب aestheticization of violence أو "تجميل العنف وجعله شيئًا محببًا، والمفاجأة أن العالم يحب ذلك، لماذا؟ ربما لأنه قام بهدم ذلك السور الفاصل بين الحقيقة والخيال؛ فأنت حين تجلس في السينما لتشاهد فيلمًا فأنت تشاهد فيلمًا، عقلك يدرك ذلك، لكن في سينما تارانتينو أنت تشاهد ما يحدث في الحياة عامة من عبث وازدواجية وجنون مطبق ولا منطقية ونهايات مفتوحة، وما السينما في النهاية غير انعكاس للواقع؟ وهذا ما يجعلك لا تمل أبدًا، ويجعل أنفاسك تتسارع إذا رأيت صورته في خلفية سيارة أنيقة يقودها دي كابريو وبراد بيت، الواقعية السحرية كما أحب أن أطلق عليها.

ما علاقة ذلك بمصر؟ ما حدث له لم يكن خيال ردىء حقًا إلا على صعيد الاستعارة الفنية، أما ما يحدث هنا الآن أخشى أن لا استعارة فيه، أنا لست ضد فكرة "تسييس السينما" أو منصات المشاهدة، أو بالأحرى ضدها فكريًا ولكني لست ضدها مجتمعيًا، فلنواجه الأمر؛ المجتمعات الرأسمالية كلها تقوم على فكرة تحكم صانعي القرار وأولي الأمر في المحتوى المعروض، حتى في أمريكا- بائعة الوهم الأولى في العالم- تتدخل وكالة الاستخبارات المركزية CIA بشكل مباشر في صناعة السينما، وتفرض رأيها على ما يجب أن يُعرض وما لا يجب أن يُعرض، هل لاحظت التطبيع العام للإرهابي العربي ذي الذقن في معظم الأفلام الأمريكية؟ "تغويل" العرب" هواية محببة للمخابرات في صناعة السينما الأمريكية منذ سنوات عديدة، الغول أو Golem كما يطلقون عليه في الديانة اليهودية هو وحش أسطوري يتم إحيائه للقضاء على كل أعداء اليهود اللدودين في العالم عن طريق دمج حروف اسم الله المقدسة كما يخبرنا سفر يتزيرا أو كتاب الخليقة اليهودي، وأية طريقة أفضل في القرن الحادي والعشرين لإحياء غول من المؤثرات البصرية الهوليوودية و الإنتاج الضخم الأمريكي؟ برامج تليفزيونية مثل Oprah و America's got talent وأفلام على غرار Iron Man و Avengers و Hulk و James Bond كلها ممنهجة من قبل وكالة الاستخبارات وداعمة لفكرة الغول الذي تم إحيائه ليهدد الحياة على "الطريقة الأمريكية" كما ابتكرها مبتكروها، والذي قد يكون أي شىء بدءًا من عدو محلي للنظام أو إرهابي ملثم وصولًا لمارد عملاق يقطن في الفضاء الخارجي.

الأمر ليس غريبًا على مصر التي شهدت في جميع عصورها الحديثة تدخلًا مباشرًا من السلطة في المحتوى المعروض؛ اختلف الغول الذي يهددنا بالطبع من وجهة نظرهم لكن المضمون واحد؛ في عصر الغزو الأجنبي والعدوان الثلاثي طلب جمال عبد الناصر من فريد شوقي طلباً مباشرًا أن يقوم بعمل فيلم عن العدوان الثلاثي على مصر فظهر فيلم "بورسعيد" عام 57، وبعد انتخاب عبد الناصر نفسه تطبعت السينما بالاحتفاء بالمؤسسة العسكرية وقيم ثورة الظباط الأحرار الذي تمخض عنها وصوله للسلطة فظهرت أفلام مثل "رد قلبي" و "اسماعيل يس في الأسطول" ثم جاء عصر السادات وانقلبت الاشتراكية الشيوعية التي نُعِت بها عبد الناصر غولًا، وعبد الناصر قد يكون اشتراكيًا لكنه بالتأكيد ليس شيوعيًا! اشتراكيته تعني بالدرجة الأولى الانحياز للفقير وكفاية الانتاج وعدالة التوزيع، أما الشيوعية كنظام إداري سياسي فكان من أشد ماقتيه، لقد تضمن كتاب "سنوات الغليان" لمحمد حسنين هيكل مجموعة من خطابات عبد الناصر جاء فيها بوضوح إدانته للشيوعية والشيوعيين الذين أسماهم "أصحاب عقيدة مخالفة" وأنه على الرغم من تقبل المساعدات من الاتحاد السوفييتي إلا أنه لا يطبق طرقهم في الحياة ولا يقبل بها، المهم أن الشيوعية صارت الغول الجديد في عصر السادات و اقتات صانعي السينما لفترة على أجر محاربته فجاء فيلم مثل "الكرنك" يقصد فضح أخطاء النظام السابق كما جاء في مشهد تعذيب طالب الجامعة ليعترف متى التحق بالشيوعية؟ ثم تطورت الأوضاع أكثر ولم يصبح أحدًا متفرغًا لهذا الهراء وإسقاط الضوء على أخطاء الماضي لأن الجميع انشغلوا بالحرب التي انبثق منها غول جديد يُدعى اسرائيل فجاءت أفلام عصر ما قبل التطبيع سافرة بالعداء والبغضاء مثل "الرصاصة لاتزال في جيبي" و"الطريق إلي ايلات" الخ الخ..

المشكلة في عصرنا هذا أن الموازيين انقلبت بالكامل بسبب الانفتاح الذي لم يأت تدريجيًا ولكن مرة واحدة؛ بفضل الانترنت وتدفق المعلومات أصبح من حق الجميع رؤية كل شىء في أي وقت، وبدون أية رقابة، الأمر أصبح أكبر من مجرد لعبة احتكار، الدراما المصرية وجدت ممولًا جديدًا له سلطة التدخل في محتواها تدخلًا واضحًا كما اتفقنا ولن يقبل بأي ثمن أن يسرق "مجهوده" أحد وهذا لطيف، النكتة هنا أن لا أحد يرغب بسرقة مجهوده من الأساس؛ الكل مشغول بمحتوى آخر أكثر عالمية وإمتاعًا ونضجًا، صراع العروش هذه المرة لا يتضمن عرشًا مصريًا ، الكل بحث عن بدائل، يذكرني الأمر بالطرفة الشعبية المصرية التي تقول: "سرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا"، صانعو القرار لا يدركون أنهم حتى وإن امتلكوا المفتاح لم يعد أحد بحاجة إليه؛ هناك ألف طريقة أخرى لفتح الصندوق! لا أعلم حقًا كيف ينتظرون من فرد في دولة نامية مُغرق بدين خارجي وصل حتى العام المنصرم إلى 96،6 مليار دولار، ومطالب بسداد فاتورة كهرباء فلكية "جزافية" ومصاريف وقود يتأرجح كل يومين فقط للأعلى، وشراء سلع غذائية أساسية بعد طرده من التموين، وملابس بالشىء الفلاني بعد وصول سعر الدولار -ومعه سعر الواردات- لحدود الغلاف الجوي، ومصاريف علاج يستنزف الحد الأدنى مما في جيبه قبل حصوله عليه ليدفع اشتراك في ابليكيشن تسلية منزلية حتى وإن بلغت قيمة الاشتراك ثلاثة جنيهات فقط في اليوم! الثلاثة جنيهات لهم قيمة بالرغم أن لا قيمة لهم على الإطلاق ، ألم أقل لكم أننا نحيا في خيال رديء؟