عادل حمودة يكتب: الشيخ والمريد أو المعلم والتلميذ.. الصوفية فيها ما فيها (3)
يؤمن الصوفيون بأنه بينهم أولياء يتلقون العلم من الله مباشرة
لقد توقع الخضر من موسى الإنكار بسبب عدم العلم وهذا طبيعى فالإنكار يأتى دائما من عدم الإلمام
قصة موسى والخضر تعطينا درسا تربويا: أن لا نحكم على الأشياء من ظاهرها فما خفى كان أعظم
كيف يمنح الله عباده الصالحين قدرة كشف الغيب التى لم يمنحها لبعض الأنبياء؟
فى اللحظة التى يداهمنا فيها الغياب لن نجد فرصة نبكى تحت قباب.. لن نقرأ الكتاب.. ولن نمسك حتى بسراب.
فى اللحظة التى ينقطع فيها المطر لن يكون فى آخر الليل قمر.. سنظل على سهر.. وسندخل العالم الآخر بلا جواز سفر.
فى اللحظة التى سيغمرنا فيها الإحساس بالشتات لن يكون لدينا لسان أو شفاه أو مفردات.. وستعجز عن إنقاذنا الكلمات.
إنها لحظة بألف دهر.. عبورها فاصل بين النعيم والقهر.. دواؤها أن نذكر الله الذى لا يدركه بشر ولو ابتلعوا الزمن باليوم والشهر.
ذكر الله والصلاة على رسوله وحب آل البيت من فرائض الصوفية ولكن لو كانت هذه أمور واضحة فلم تتعدد طرق الصوفية وتتنوع مدارسها وتختلف راياتها؟.
بصيغة أخرى: ما معنى عبارة كل شيخ وله طريقة؟.
معناها أن كل شيخ له طريقته الخاصة فى توصيل العلم إلى مريديه وليس معناها أن كل شيخ له دين.. الدين واحد.. نصل إليه من ألف طريق.. أو طريقة.
إن من أجمل تعبيرات الصوفية تعبير مريد.. ويعنى الشخص الذى اتبع شيخه بإرادته وحريته.. لم يتبعه قسرا أو قهرا أو إرغاما.. بل اتبعه حبا وحماسا.. لم؟.. الشيخ لا يأمره بمعصية ولا يحرضه على خطيئة ولا يلقى به فى رذيلة.. وإنما يسهل له الوصول الى المعرفة.. وربما كانت الطاعة أو هذه القناعة سببا فى قلة ثقافة المريدين أحيانا لسبب غريب ومنطقى هو أن المريد يثق فى شيخه فلا يسأله عن مصدر ما يقول لأنه يعلم أن شيخه لابد أنه مطلع على كتاب الله وسنة رسوله ولكن السؤال لا يضر بل على العكس يفيد فالسؤال المفتاح الوحيد للعلم.
وللصوفية مشارب ومسالك يتناسب كل منها مع العصر والزمان والمكان.
فى عصر الإمام الشافعى مثلا.. لو سألت مسلما عن المذهب الشافعى والمذهب الحنبلى سيبادر بالقول: إن المذهب الحنبلى أشد صعوبة.. ذلك لأن الإمام أحمد بن حنبل تلميذ الشافعى كان عالما.. وكان يتقبل من معلمه وشيخه ما لا يستطيع غيره تقبله.. كان يرى شدته شيئا عاديا وسهلا وبسيطا.
فى ذلك الزمان كان المريدون عارفين بأحكام الشريعة.. لم تكن صعبة عليهم.. ومن ثم كان الواحد منهم يتقبل من شيخه كل ما يقوله مهما كان شاقا ودون ضجر.
ولكن فى أزمان أخرى جهل فيها الناس أحكام الشريعة لم يتحمل المريدون ما يعتبرونه شدة.. وكان لابد أن يلجأ شيوخهم إلى التخفيف حتى يتعلموا.
وربما كانت هناك قسوة من الشيخ على مريديه ولكنها قسوة الأب على ابنه.. لو عرف الابن سببها وسرها لتأكد أنها ليست قسوة وإنما رحمة.
إن معرفة سبب الألم يجعل من السهل تفسيره.
ولو كانت تعبيرات مثل الشيخ والمريد ثقيلة على الأذن فى عصرنا أو لم تكن مستساغة فى زماننا فليس هناك ما يمنع أن تكون التسمية: أستاذ وتلميذ.. معلم وطالب.. أسطى وصبى.. لا نريد أن تستهلكنا وتأكلنا الكلمات.. ما يهمنا أن يعرف كل منهما واجباته وحقوقه.
إن واجب المعلم أن يعلم تلميذه ما أمر به الله ورسوله فإن حافظ على ذلك وجب على التلميذ طاعته.
والعلاقة المثالية بين المعلم والتلميذ نجدها فى كتاب الله من خلال قصة الخضر وموسى.
موسى هو النبى الذى أرسله الله إلى اليهود لينقذهم من العبودية وعرف أولى المعجزات عندما شاء الله أن يتربى فى قصر فرعون الذى سيأتى عليه يوم ليهلكه أما أرقى معجزاته فكانت يوم كلمه الله فوق جبل فى سيناء.
أما الخضر فيختلف عليه مؤرخو عصره فمنهم من يصفه بأنه نبى ومنهم من يصفه بأنه ولى ومنهم من يؤكد انه إيليا بن ملكان بن فالج بن شالح بن نصر حتى صلب آدم ومنهم من يصر على أنه ابن بنت فرعون ومنهم من يعتقد أنه الذى أماته الله مائة عام ثم بعثه فلا يموت حتى ينفخ فى الصور حسب قول الله سبحانه وتعالى: أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير.
ولكن ليس لدينا دليل واحد على صحة هذه الروايات فالقرآن يصفه بالعبد الصالح الذى يمتلك حكمة إلهية خاصة (علما لدنيا) وأن نصدق وصفه بالخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هى تهتز من خلفه خضراء فالتفسير للرسول عليه الصلاة والسلام نقله عنه أبى هريرة.
ورغم أن القرآن يبجل موسى من حيث إنه نبى مرسل ولكن فى الوقت نفسه تبين أن موسى فى حاجة إلى الصبر والتبصر المجاوز للمعتاد والمتوفر عند الخضر.
لو وضعنا موسى موضع التلميذ ووضعنا الخضر موضع المعلم سنجد سياقا إنسانيا راقيا وجميلا لتلك العلاقة.. إنها علاقة تقوم على المكاشفة من أول خطوة فى الطريق إلى مجمع البحرين.
طلب موسى (التلميذ) من الخضر (المعلم) الصحبة وحدد غايته فى قوله: هل اتبعك على أن تعلمنى مما علمت رشدا.. هذه غاية التلميذ.. وصارحه الخضر بصعوبة ما يطلب فى قوله: إنك لن تطيق معى صبرا.. وليس هذا طعنا فى قدرات التلميذ وإنما هو عدم الإلمام بطبيعة العلاقة.
قال الخضر: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا.. المعلم يفسر صعوبة المهمة.. لأنه سيواجه أشياء وراء نطاق خبرته وسيعجز عن فهمها.. وحرف لن هنا دلالة على توقع ما سيحدث فى المستقبل.. ثم إن الخضر التمس العذر لموسى فى قوله: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا.. ولكن التلميذ على أمل تعلم الرشد الإلهى الخاص يعرض على الأستاذ استعداده الكامل للفهم والاستيعاب قائلا: ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرًا.. وقبل الخضر أن يتبعه.. ويتبعه ليس معناها أن يعبده.. ولكن هدفها أن يعلمه مما يعلم.. أو الأدق أن نقول: مما علمه الله.
لقد توقع الخضر من موسى الإنكار بسبب عدم العلم وهذا طبيعى فالإنكار يأتى دائما من عدم الإلمام.
وبقية القصة.. أنهما انطلقا معا.. حتى إذا ركبا فى السفينة التى خرقها (الخضر بمفرده) وجد موسى أو (التلميذ هنا) يعترض كما توقع الأستاذ.. اعتبر موسى خرق السفينة جريمة شروع فى قتل جماعى لركابها وتخريب ملكية خاصة وقال: أخرقتها لتغرق أهلها.. عندئذ ذكره الأستاذ بشروط المصاحبة قائلا: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا.. لقد أخل موسى بهذه الشروط ثم انتبه إلى ذلك فسارع إلى اعتذار رقيق نسبه إلى النسيان.. نسيان بنود الاتفاق.. والنسيان ليس ذنبا.. قال: لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا.. يعنى على مهلك على.
قبل الأستاذ الاعتذار وانطلقا من جديد حتى إذا لقيا غلاما فقتله (الخضر بمفرده) عندئذ لم يتصور التلميذ أن طاعته يمكن أن تصل إلى حد القتل.. كانت المرة الأولى شروعًا فى قتل عمد مع سبق الإصرار أما هذه المرة فهى قتل.. جريمة كاملة.. واضحة.. وتكلم التلميذ على قدر إلمامه ووجه كلامه إلى الأستاذ قائلا: أقتلت نفسا زكية بغير نفس.. إن القتيل طفل برىء لم يبلغ الحلم ولا يحاسب على ذنب فيكف يكون الموت مصيره؟.. عندئذ ذكره الأستاذ بما كان بينهما من اتفاق قائلا: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا.. وعاد التلميذ إلى وعيه.. ولكنه لم يكتف بالاعتذار هذه المرة وإنما وضع شرطا لنهاية الصحبة التى طلبها بنفسه إذا تكرر منه رفض أو اعتراض.. قال موسى: إن سالتك عن شيء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا، وقبل الأستاذ أو الشيخ الاعتذار على الشرط الذى وضعه التلميذ أو المريد وكأن الشيخ ليس هو الذى يضع الشروط وإنما الذى يضعها هو المريد.
انطلقا مرة أخرى حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها (طلبوا طعاما من أهلها) فأبوا أن يضيفوهما ورغم ذلك وجدا جدارا (يوشك أن يقع متهدما فأقامه (المثنى هنا أصبح مفردا ويعود على الخضر وحده) فاعترض التلميذ من جديد.. ظن أن الاعتراض هذه المرة لن يضر.. فهو ليس اعتراضا على خطأ وإنما على صواب.. ليس على شيء سلبى مثل خرق السفينة وقتل الطفل وإنما على شيء إيجابى هو بناء جدار كان على وشك أن يقع فى قرية لم تطعمهما.. لم يخطر ببال المريد أن الاتفاق يشمل أى اعتراض مهما كان.. وقال الشيخ الذى أقام الجدار: لو شئت لاتخذت عليه أجرا.
وما أن سمع الأستاذ اعتراض التلميذ حتى قال بحسم: هذا فراق بينى وبينك سأنبئك (سأشرح لك) بتأويل (تفسير) ما لم تستطع عليه صبرا.. وراح يفسر له ما لم يستوعبه.. أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأراد أن يعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل السفن غصبا (كان يأخذ السفن السليمة لا السفن المعطوبة) فكان عطب السفينة قد أنقذها من المصادرة الملكية.. وهو عمل خير بدا فى صورة شر لم يفهم المريد ما وراءه.
أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فإذا ما كبر فسوف يرهقهما ويجبرهما على الكفر وعندما يموت وهو طفل فإنه سيموت دون ذنوب مما يتيح له دخول الجنة كما أن موته الآن يتيح للأبوين إنجاب غيره فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة (لاحظ أن القرآن استخدم فى البداية كلمة القرية دلالة على توقع الكرم وعندما ظهر بخل أهلها اسماها المدينة) كان تحت الجدار كنزا لليتيمين خاصة أن أباهما كان صالحا فأراد الله أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك.
و ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا.
القصة تبين أن المريد بكامل إرادته هو الذى طلب الصحبة.. صحبة الشيخ.. ولكن الشيخ لفت نظره إلى صعوبة ذلك وعدم القدرة عليه.. على أن المريد وعده بالصبر.. وكلما أخطأ اعتذر.. وقبل الشيخ اعتذاره.. وعندما تكرر الخطأ طالب الشيخ المريد بالمفارقة لو تكرر الخطأ.. إذن المريد ظل محتفظا بإرادته كاملة فى صحبة الشيخ.
هنا يكون السؤال: ماذا لو سلم موسى بخرق السفينة أيكون مخطئا لأنه سلم بشروع فى قتل؟.. وماذا لو لم يسأل موسى عن قتل الغلام أيكون مخطئا لسكوته على جريمة قتل؟.. ثم ماذا لو سلم موسى بإقامة الجدار ولم يتدخل؟.
لو لم يسأل موسى لكان قد واصل الصحبة ولكان قد تكشف له كل شيء خفى عنه دون اعتذار أو مفارقة.. رحم الله موسى.. لو صبر على الخضر لعلمنا ألف حكاية.. إن هذه هى ثقة المريد فى شيخه.. هى ثقة لا تبعية.
ويستخلص الصوفية من هذه القصة دروسا جوهرية يمكن للإنسان العادى الاستفادة منها فى حياته.
أن يتجنب الحكم على غيره بالظاهر فربما يخطئه الباطن ويكشف عن أمر متناقض تماما.. ليس كل من يتكلم فى الدين مستقيما.. وليس كل من لا يتكلم فى الدين منحرفا.
أن لا يدعو الله بشيء محدد حتى لا يستجيب سبحانه وتعالى وتكون النتيجة كارثة.. هناك من دعا الله بأن يرزقه ثروة جاءت إليه بوابل من المصائب لم يتوقعها.. وهناك من دعا الله أن يكون وزيرا فإذا بالظروف السياسية تتغير ويجد نفسه فى السجن.. مثلا.
ادعوا الله بالستر فى الصحة والسمعة والعزوة والثروة التى منحها لك.
ولو احترت بين أمرين فاسأل الله أن يختار لك الأصلح.
ولو دخلت على قوم فادعوا الله أن يأتيك خيرهم ويجنبك شرهم.
وهناك درس أهم.. أن الله يمكن أن يمنح علمه إلى عبد من عباده الصالحين ويبعده عن نبى من أنبيائه.. عبد يصطفيه الله ويمنحه كشف الغيب بينما يحجب ذلك العلم عن نبى.. وكأن العبد بالترقى يمكن أن يجد نفسه فى مكانة مرتفعة.
هنا يؤمن الصوفية بأن بعض الأولياء قد يتلقون إلهاما مباشرا من الله ومثل هذا العلم المباشر من الله قد يكمل أو حتى يفوق العلم الذى يكشف للبشر بطريق الرسل الذين اجتباهم الله ليبينوا مراده للناس جميعا.
وهناك درس آخر.. أن المسافة بين الشيخ والمريد هى مسافة علم.. الفروق بينهما فروق علم.. واعتراض المريد على الشيخ هو اعتراض من لا يدرى.. وليس من يدرى كمن لا يدرى.. ليس الذى لم يدر يشبه من يدرى.. وأحيانا يؤدى بنا الجهل إلى الخطأ حتى فى حضرة النبى.. يقول الله سبحانه وتعالى: إنا أنزلناه فى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر.. ويفسر البعض وما أدراك ما ليلة القدر تفسيرا خاطئا هو أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يدرك أولا يدرى.
والتفسير نفسه فى قوله سبحانه وتعالى: وما أدراك ما الحاقة.. أو وما أدراك ما يوم الدين.. إننا نقول للكريم: ما أكرمك.. أسلوب مدح.. معناه أنك سيد العارفين بالكرم.. أسلوب استحسان.. وشهادة من الله بأن النبى هو الأكثر دراية بليلة القدر وبيوم الدين وبالحاقة.. ما أدراك هنا تعنى أنك الأكثر دراية.. إن التسرع فى التفسير بداية التهلكة.
والدراية أو العلم درجات.. إن مساكين السفينة التى خرقها الخضر هم أهل علم يقين.. فقد شهدوا خرقها.. أما سيدنا موسى الذى عرف من خرقها فعلمه هو عين اليقين.. ويبقى الخضر الذى عرف الحكمة من وراء خرقها.. علمه هو حق اليقين.. ومع ذلك كان اعتراض موسى بأدب جم فى صورة سؤال: أخرقتها.. أقتلت نفسا؟.. أما إقامة الجدار فلم يقل: أبنيت أو أأقمت؟ لأن التلميذ أو المريد يتوقع من أستاذه أو شيخه الخبر فلم يسأل.. ولا تعارض بين الدرجات الثلاث.. فليس الناس يتربعون عند الدرجة نفسها من العلم.. لذلك سمى العلم رفعة.. يقول سبحانه وتعالى: نرفع درجات من نشاء
وفوق كل ذى علم عليم.
وليس هناك كبير على العلم ولو كان نبيا فى مقام موسى أو وليا فى مقام الرومى.
كان معلم الرومى هو شمس الدين التبريزى الذى منحه الصوفية كثيرا من ألقاب التشريف: سلطان الأولياء والواصلين وتاج المحبوبين وقطب العارفين وفخر الموحدين وعلامة رفعة الآخرين على الأولين وحجة الحق على المؤمنين ووارث الأنبياء والمرسلين.
أما الرومى فقد توسل إلى شمس قائلا:
أيها الناطق الإلهى.. يا عين الحقائق.. يا خلاص الخلائق من هذا القلزم المليء بالنار.
أى شيخ قديم أنت.. أى مليك عديم النظير أنت.
منقذ للروح من آفة العلائق أنت.
فى طريق التضحية الأرواح صيد لك.. آه أى من هذه الصيود لائق بالروح.. فمن يكون المخلوق حتى يزعم عشقك.
يا من عاشق لجمالك نور جلال الخالق.. أى علاج يمكن أن تصف لى.. أنا الذى صادنى العشق.. أنا عليل تباريح العشق.
أيها الطبيب الحاذق.. قال لطفك: تقدم.. قال قهرك: تراجع.. ليخبرنى أحد أى هذين صادق.
يا شمس الأرواح.. يا شمس الحق يا تبريزى.. إن كل ذرة من شعاعك.. روح.. لطيف.. ناطق.
وليس فيما قال الرومى مبالغة فكل ما يمتلكه الرومى إنما تلقاه من التبريزى.
صورته الأسطورة شمسا فاتنا للجماهير أحيانا.. ساذجا عاديا أحيانا.. درويشا جوالا غالبا.. ممتلكا طاقات خارقة.. متشائمًا مغث جدا.. أمى نسبيا لكن حماسته الروحية الهائلة المبنية على الإيمان بأنه كان لسان حال الله (تعالى) وناطقا باسمه سحرت كل من دخلوا الدائرة المسحورة لقوقعته كما نقرأ فى كتاب فرانكلين لويس عن الرومى.
ووصلت الأساطير التى روجتها العامة حول التبريزى إلى حد القول إنه كان شخصا خياليا ابتكره الرومى ليكون مرآة لنقل فكره إلى الناس ولكن فيما بعد وجدت مخطوطات كتبها التبريزى بنفسه ونشرت تحت عنوان: كلمات أو مقالات.
وفى كتاب مناقب العارفين الذى نشره أحمد الأفلاكى فإن التبريزى كان معلما لدروس الفقه والرياضيات والفلك ولكن الأهم أنه كان وليا يمتلك منذ طفولته قدرات روحية خاصة لم يستطع أحد كشف أسرارها: كان يقال فى صغرى إنه أزيلت شهيتى إذ كانت تمر ثلاثة أو أربعة أيام من دون أن آكل شيئا ولكنه لم يكن ضعيفا بل كان قويا إلى حد: إننى لو شئت أن أطير من النافذة لطرت مثل طائر على حد قوله.
والمؤكد أن التبريزى أحدث انقلابا روحيا فى الرومى رغم أن الرومى نفسه كان عالما ناضجا جمع فضائل لم يمتلكها غيره وصلت إلى حد أنه كان يشرح حقائق التصوف التى تلقاها من التبريزى بلغة بسيطة للناس العاديين لم يكن التبريزى يمتلكها.
لكن علم الرومى كان مثل علم موسى وعلم التبريزى مثل علم الخضر ولكن الرومى استسلم لعلم التبريزى استسلاما كاملا إلى حد أن قال: إنه أضرم النار فى روحه وحرق كتبه وعبادته اليقظة وأعماله الظاهرة باختصار صعد به إلى طريق الصوفية معلنا طريقة المولوية.
على أن مصير التبريزى كان القتل بخناجر مجموعة كرهت أن يستسلم الرومى إليه وإن ذكرت الأساطير أن الجثمان اختفى ولم يبق من الجريمة سوى ثلاث نقاط من الدم مشيرة إلى وقوعها وبهذا الاختفاء تزعم ثلاث مدن أن الجثمان مدفون فيها: قونية (تركيا) وخوى وتبريز (أذربيجان) ودخلت باكستان على الخط وادعت أن الجثمان مدفون فى مولتان ولكنها سرعان ما اعترفت بأن القبر لداعية آخر.
لكن أهم من سيرة حياته أفكاره التى نجدها واضحة فى مؤلفات الرومى التى نقل عنها فرانكلين لويس ومنها:
الرجل الطيب لا يشكو من أحد وهو لا ينظر إلى العيوب.. لدى طبع يجعلنى أدعو لليهود.. أقول: هداهم الله.. أدعو لمن يشتمنى: يا الله أعطه عملا أفضل وأحسن من هذا الشتم.
ولا يرى تناقضا بين أن يسعد الإنسان فى الدنيا ويحافظ على عبادته الصوفية: يدركنى العجب من هذا الحديث: الدنيا سجن المؤمن لأننى لم أر سجنا.. رأيت كل سعادة رأيت كل عزة فى كل خطوة.. لم أقلق من أى من أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام إلا من هذا الحديث: الدنيا سجن المؤمن لأننى لا أرى سجنا.