عادل حمودة يكتب: ليست صوفا ولا صوفيا.. الصوفية اصطفاء الله لمن شاء من عباده.. الصوفية فيها ما فيها (2)
كيف فتح الشيخ مختار طريق النور بكشافات عصرية تحترم العقل وتطهر القلب؟
يقول الإمام الشافعى شعرا: "يا آل بيت رسول الله حبكم.. فرض فى القرآن أنزله"
يرث الكتاب ظالم نفسه قبل المقتصد وقبل السابق بالخيرات
لا أحد يحاسب صحراء العطش لو توحمت على خيط رفيع من الماء.. لا أحد يحاسب جائعا لو ظل طوال ليله يحلم بسوق الخبز.. لا أحد يحاسب الأولياء والأتقياء إذا ما واصلوا دون توقف ذكر الله وعشق الله والفناء تحت قدمى الله.
إننا نواجه ألعاب الحياة البهلوانية وأقنعة الناس الشمعية وطرق الشر الشيطانية بالتقرب إلى الله.. هذه ببساطة الصوفية.. سفر فى شرايين الإيمان.. إفراغ القلب من سطوة الأحزان.. وحشوه بالرياحين والزعفران.
كنت أتصور الصوفية نوعا من البهدلة الذهنية.. خيش وحشيش وبقشيش.. عزلة على رصيف عام وتمسح بمقابر رخام وانتظار حسنة من لئام.. لحية تنفر من صاحبها ونفس كسولة حتى فى الوصول إلى بارئها.. تقاعد عقلى مبكر لا يؤمن بوجود مفكر أو مدبر.. انسحاب من الحياة إلى كهوف العزلة ومد اليد للحصول على عملة.
كنت أتصورها شعوذة لا تعرف الجدية ولاتتحمل المسئولية.
ألقيت عليها كل ما فى قواميس اللغة من صفات خبيثة دون أن أجد فيها صفة واحدة حميدة حتى قابلت رجلا مؤمنا أنيقا يفكر ويبدع ويبتكر وينتج ويجتهد ويثمر.. يدير مشروعا ناجحا فى الصحراء.. وينقل خبرته بسهولة لكل من يطلبها.. تملأ الابتسامة وجهه.. يفيض مدد السماء من لسانه.. لا يطلق لحيته.. لا يقف بعيدا عما يجرى حوله.. يملك القلوب.. يسحر العقول.. ويرشد أتباعه إلى الحق والخير فى طريقة صوفية.
إن الصورة الشائعة عن الصوفى صورة ذهنية خاطئة ترسم شخصا رث الثياب.. يهمل الدنيا.. مجذوبا.. لا يستحم.. لا يعمل.. لا يتفاعل مع أحداث الدنيا.
صورة ظلمت الصوفية وظلمت أنصارها ساهمت فى ترويجها أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون وكتابات من اكتفوا بالفرجة على تلك الأعمال الفنية.
صورة تحتاج مراجعة ومرافعة خاصة إذا ما عرفنا أن فى مصر ملايين من الصوفية يحملون شهادات عليا وهم خبراء فى مجالاتهم.. محترمون فى تعاملاتهم.. طيبون فى حياتهم.. يرددون أورادهم صباح مساء.. يتبركون بآل البيت.. يؤمنون بأن فى كل زمان أولياء يوسعون مساحة الرحمة فى زمن سيطرت عليه أخلاق الزحمة.. فى زمن باع أنبياءه مقابل جهاز تكييف أو تليفون محمول أو سهرة فى ملهى.
تغيرت تلك الصورة فور أن قابلت هذا الرجل الذى يناديه اتباعه «عم الشيخ مختار».. واسمه بالكامل الشيخ مختار على محمد.. أضاف إليه لقب الدسوقى نسبة إلى القطب الصوفى إبراهيم الدسوقى.. دعانى لزيارته فى مزرعته التى أطلق عليها «الكرام» فى منطقة مديرية التحرير.. محافظة البحيرة.. حمل الدعوة شقيقى الأكبر المهندس المتخصص فى ميكانيكا الطيران والسيارات إبراهيم حمودة أحد مريدى الشيخ الذى رفض يومها أن أكتب عنه أو أذكر اسمه.
فوجئت به يرتدى ثيابا عصرية على أحدث خطوط الموضة ويدخن سجائر ولا يطلق لحيته ودائم الابتسامة ويجيد الإنصات ولم يقبل بأن يخدمنا سوى أحد أبنائه ليعلمهم التواضع ويجنبهم التكبر.
حصل الشيخ مختار على العهد من الشيخ عثمان البرهانى.. شيخ الطريقة البرهانية التى أسسها فى السودان ووجدت اتباعا لها فى مصر.. وبعد وفاته انقسمت الطريقة على نفسها.. وخلط الناس بين البرهانية والبرهامية.. وجنب الشيخ مختار نفسه بعيدا حتى اعترف المجلس الأعلى للطرق الصوفية بطريقته.. «الطريقة الدوسوقية المحمدية» التى جذبت إليها أطباء ووزراء وصحفيين وقضاة ونجوم سينما.
أما مزرعته فتقع على 700 فدان بنى فيها أحواضا لتربية السمك واستخدم فضلاته فى تسميد زراعة البرسيم التى ربى عليها الأغنام واستخدم فضلاتها وقودا حيويا مستفيدا من كل شيء دون تلوث للبيئة.
وجاءت وفود من اليابان لتتعرف على تلك التجربة الفريدة من نوعها واستأذنت فى نقلها وحتى تعم الفائدة ترك ابنه الكبير يدرسها جيدا حتى حصل فيها على شهادة عليا وحضرت مناقشة الرسالة التى كتبها عنها.
ولم ينس الشيخ مختار بناء فيلات لمريديه ليقضوا فيها الإجازات مع عائلاتهم أو ليخلوا فيها إلى أنفسهم مع الأذكار والأوراد بعيدا عن صخب الحياة فى الخارج.
وشيدت فى المزرعة حجرات لاستقبال الضيوف وقاعات للدروس وصالات للطعام وكثيرا ما عشت هناك أياما أختلى فيها إلى نفسى فى أوقات كانت الدنيا فيها تضيق بى حتى الاختناق.. هناك وسط الخضرة وذكر الله وتفسيرات الشيخ وسماحة المريدين كنت أسترد ثقتى فى نفسى وأواصل معاركى مع ديناصورات الفساد المحمية بالسلطة فى زمن مبارك.. إن كلا منا ميسر لما خلق له.. ولو أداه بضمير فإن الله سينقذه ولو ابتلعه الحوت مثل سيدنا يونس.
لاحظت أن الشيخ يمسك رباطة العنق بمشبك من الذهب فلم يمنعنى الفضول عن سؤاله:
ــ أليس الذهب محرما على الرجل؟
ــ نعم ولكن علة التحريم أن الذهب عندما يلامس جسم الرجل بوضعه خاتما فى أصبعه يقلل من خصوبته أما إذا وضع على قماش مثل رباطة العنق فلا ضرر منه.
ــ لكنه يعكس نوعا من الثراء يقلل من شعور المرء بالتواضع.
ــ الماس أغلى ورغم ذلك غير محرم.
ولم يكن من الممكن أن أفوت الفرصة كى أسأله عن تعريف الصوفية.. هل هى مذهب دينى؟.. هل لها أساس من العقيدة الإسلامية أم أنها مقتبسة من أصول فارسية وهندية وبوذية ومجوسية؟.. هل هى فكرة طائشة يتشبث بها البسطاء أم أنها طريق مفتوح إلى السماء؟.. هل هى رغبة فى الفناء أو وسيلة للرجاء؟
ولو كان الجهل بالشيء سبب تصورنا الخاطئ عنه فلم لا نبدأ بتعريف يمكن الوثوق به من أهل العلم طبقا لقاعدة لو تعارفنا لتآلفنا؟.
هناك من يقول أن الصوفية مشتقة من كلمة صوفيا وهى كلمة يونانية تعنى الحكمة.. واستخدم الفيلسوف اليونانى ماسبينيون تعبير «ثيوصوفيا» للإشارة إلى من يصفهم بمحبى الله أو عشاق الله أو حكماء الله.
ولكن أبو الريحان البيرونى ــ بعد إقامة طويلة فى الهند ــ نسب الصوفية إلى طوائف هندوسية لا ترى وظيفة فى الحياة غير عبادة الآلهة وتؤثر الروحى على المادى وتمارس رياضات لإفناء الذات إضافة إلى الصلوات والصيام وغيرها من العبادات المفروضة.
ونقل الفيلسوف المصرى عبدالرحمن بدوى عن المستشرق الألمانى فول هومر: «إن هناك علاقة بين الصوفية والحكماء العراة فى الهند الذين أطلق عليهم «سوفيستز» ومنها اشتقت كلمة سوفية التى تحولت فى اليونان إلى صوفية.
ولكن لم نلجأ إلى اليونانية أو اللاتينية ونحن أمة عربية؟ لم نتعامل مع التعريف على طريقة زمار الحى لا يطرب والولى البعيد سره باتع؟
هناك من يقول: إن الصوفية من الصوف والصوف الخشن دلالة على الزهد.. ولو صح ذلك التعريف لكانت الأغنام أكثر خلق الله تصوفا.. إنها لا تستورد الصوف أو تشتريه وإنما يخرج منها ويغطيها.. تنتجه بنفسها لنفسها.
ويزعم المستشرق جولد تسيهر إن الصوف استخدم أول مرة فى الدولة الإسلامية فى عهد الخليفة عبدالملك بن مروان (حكم فى الفترة ما بين 685 و705 ميلادية) وبنى على ذلك أن الصوفى المسلم اقتبس الطريقة من زهاد ونساك ينتمون إلى ديانات أخرى واشتهر عنهم لبس الصوف.. وكأن الصوفية بدأت بمعرفة المسلمين بالصوف.. وليس ذلك صحيحا، فالنبى عليه الصلاة والسلام كان يلبس الصوف كما روت السيدة عائشة رضى الله عنها.. أما هى فكانت تلبس الفراء رغم صوفيتها.
ليست الثياب محددة طبيعة الإيمان.. الثياب لا تكشف عما فى أعماق الإنسان.. والنار قد تكون وقود من يلبس الخيش والجنة قد تكون من نصيب من يرتدى ثيابه على طريقة سمالتو وبريونى وفرساتشى وغيرها من بيوت الأزياء الإيطالية الشهيرة.
وقيل أن الصوفية من الصفة (بضم الصاد وتشديد الفاء) وأهل الصفة كانوا لا يلبسون إلا الصوف الخشن.. صيفا وشتاء.. وعندما كانوا يعرقون تفوح منهم رائحة الضأن.. وعندما كان المطر يبللهم لم تكن رائحتهم تطاق وتقترب من رائحة الشاة.
والصفة هى الظل أو المظلة.. وأهل الصفة ينسبون إلى صفة مسجد الرسول فى المدينة.. وكانوا فقراء يأوون إليها وينامون ويصلون تحتها.. أكثر من ذلك كانوا يعيشون على الصداقات.. ويحفظون القرآن.. ويبكون إذا تلى عليهم.. ويقال أن عددهم لم يزد عن 300 شخص.. وكانت ثيابهم قصيرة.. ترتفع فوق الركبة.. وإذا ما ركع أحدهم قبض ثوبه بيده مخافة أن تكشف عورته.. وفى البرد كانوا يستترون ببعضهم البعض.. ونسبت إليهم الصوفية فى فترة من الفترات.. ولكن.. زماننا غير زمانهم.. وأيامنا غير أيامهم.. وتعريفنا يبتعد عنهم كثيرا.. إنهم طريقة صوفية لم تعد قائمة فلا يجوز تعرف الأصل بالفرع.. لا يجوز أن ننسب الأب إلى الابن.. والبحر إلى السمك.. والسماء إلى ما فيها من طير.
يمكن القول أن كلمة صوفى ليست اسما وإنما فعل.. فعل ماض للمجهول.. كأن نقول مثلا: «صوفى الرجل» كما نقول: «عوفى المريض» أو كأن نقول: «ورى الميت».
إن أصل كلمة صوفية من الصفاء.. والمصافاة.. صفى صافى صوفى.. ولكن كيف يصاف الإنسان؟.. يقول سبحانه وتعالى: «يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين».. ويقول سبحانه وتعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل العظيم».
حسب القرآن فإن الصوفية من الاصطفاء.. والاصطفاء قرار إلهى من الله سبحانه وتعالى وحده.. يصطفى من يشاء من عباده ولو كان ظالما لنفسه أو مقتصدا أو سابقا بالخيرات.. فلا تتعجب من سكير تائب اصطفاه الله.. ولا تندهش من مجرم سابق يصبح وليا من أولياء الله.. إنها مشيئته عز وجل لا سلطان للبشر عليها ولو صاموا وصلوا أبد الدهر.
والتصفية أولى مراحل الوصول إلى الصفاء الذى ينم عن المصافاة.. والمصافاة مكاشفة.. والمكاشفة إخراج ما فى باطنك وإعلانه.. كن مكشوفا.. بح بسرك.
وليست صدفة أن أحد أسماء النبى: المصطفى.
لقد اصطفى الله مريم ثم طهرها ثم اصطفاها مرة أخرى.. أى كاشفها.. فالمصافاة هى المكاشفة.. والصوفية مصافاة وهو التعريف الذى نتصوره مقنعا ولكن أهم من التعريف ما وراء التعريف.. جوهره.. قلبه.. ضميره.
بماذا تسمى رجلا شهد الشهادتين ويؤدى الصلاة ويوفى الزكاة ويصوم رمضان وحج بيت الله الحرام؟.. سمه ما شئت.. لكن.. التسمية لن تخرج عن كونه مؤمنا مسلما ملتزما.. عليه أن يقرأ كتاب الله ولو مرة واحدة فى حياته وينفذ ما فيه من تعليمات طوال حياته.. أفضل له أن يصلى من أن يقرأ قوله سبحانه وتعالى: «وأقيموا الصلاة» ألف مرة.. أفضل له أن يصوم رمضان من أن يقرأ ألف مرة قوله سبحانه وتعالى: «ومن شهد منكم الشهر فليصمه».. الإسلام دين عمل.. «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم والمؤمنون».
ولكن.. هذا إيمان العوام.. إيمان الطاعة الإلهية دون النظر إلى ما سيجنيه من ورائها.. إذا سألت شخصا عاديا: «لم تصوم؟» لأجابك: «لأن الله كتب علينا الصيام» فهو لا يعبأ إلا بتنفيذ الأمر الإلهى.. لا يعبأ بما يقول الفلاسفة وعلماء النفس عن فوائد الصيام مثل تهذيب الطبع وتسكين الروح والتحكم فى الجسد.. ولو كان للصيام أضرار لصام أيضا.. الله يأمرنا بفعل ما ولا نملك إلا الرضوخ.
وإذا كان المؤمنون مأمورين بتنفيذ الفروض فإن هناك عبادة أخرى فارقة بين العامة والصوفية.. عبادة ذكر الله.. العامة يقولون: «إن كل عبادة نؤديها فيها ذكر الله».. ولكن.. الصوفية يقولون: «هذا صحيح لكن هناك عبادة أمرنا بها الله قائمة بذاتها.. عبادة الذكر».. المضيعون يكتفون بما فى العبادات من ذكر.. ولكن.. المدققين المحققين العارفين يرون أن الذكر عبادة منفصلة أمرنا به الله ورسوله.
الذكر فى العبادات مثل الماء موجود فى الطعام والشراب.. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: «فكلوا واشربوا» فلم يدعونا للشراب مستقلا إذا كان الماء الذى فى الأطعمة يكفى؟
على أن ما يثير الدهشة أن المضيعين لعبادة الذكر يتهمون المصرين على تأديتها بالخروج عن الدين.. وليس العكس.. بدلا من أن يقلد المقصر المؤدى ويوفى بالذكر يقلل من عزمه فى أدائه.. كأنه يريد أن يقول: قصروا كما نقصر.. ضيعوا كما نضيع.. فى الوقت نفسه يقول الصوفية: كملوا كما نكمل.. وفوا كما نوفى.. وإن كان الصوفية قد درجوا على ألا يتدخلوا بين الله وعباده.. كل ما عليهم نصح المقصر بالحكمة والموعظة الحسنة.. إن استجاب حصل على نعمة مفقودة.. وإن رفض قالوا: الحمد لله الذى عفانا مما ابتلى به كثيرا من خلقه.
يقول الدكتور عبدالمنعم الحفنى: الصوفى هو كل من صفا عن البلايا وخلص من جملة العطايا.. هو كل من قضى به الحق حتى يرضى الحق عنه.
يترجم الرومى المعنى شعرا لندركه بمشاعرنا:
ليس العشق فى الفضل والعلم والدفاتر والأوراق وكل ما يقوله الناس ويتجادلون فيه ليس هو طريق العشاق.
فاعلم أن فرع العشق فى الأزل وجذوره فى الأبد وليس لهذه الشجرة اعتماد لا على الثرى ولا على الساق ولا حتى على العرش.
قد عزلنا العقل وأقمنا الحد على الهوى ذلك لأن هذه «الجلالة» لا يقدرها العقل وهذه الأخلاق حق قدرها.
وما دمت مشتاقا فاعلم أن اشتياقك هذا الصنم فإذا صرت معشوقا فلن يبقى بعد ذلك وجود لمشتاق.
إن راكب البحر واقف دائما على خشبة الخوف والرجاء فإذا ما فنيت الخشبة والراكب لم يبق إلا الاستغراق.
لكن ليس كل من يحمل لقب صوفى يستحقه.. فليس كل مصرى وطنيا.. وليس كل موظف أمينا.. وليس كل طالب مجتهدا.. إن الحفاظ على اللقب يحتاج مجاهدة مع النفس لتصفيتها مما فيها من سواد يحيط بها ويغطى فضائلها.
على أن عامة الناس أخذوا صورة خاطئة عن الصوفية.. نشروها وصدقوها.. أخذوها من رجل كسول.. رث الثياب.. قليل العلم.. متسول.. يفترش الأرض ويلتحف السماء.. يجد سعادته فى الموالد والطرقات.. واستقرت تلك الصورة فى الأذهان وشاعت وسيطرت وأصبح من الصعب تغييرها بل رفض أناس غيرها عن الصوفية.. رفضوا الصورة الحقيقية.. فلو شاهدوا رجلا نظيف الثياب يحافظ على مظهره ونظافته ويعرف بصوفيته انتقدوه وقالوا له: «أنت لست صوفيا ما هكذا ينبغى أن يكون الصوفى».. للأسف استقر المعنى الخطأ وأصبح قاعدة.. قعدوا عليها.. وفى الوقت نفسه يريدون أن يقعد الآخرون عليها.
كان الصوفى الأعظم أبو الحسن الشاذلى مشهورا بأنه يركب أعلى الجياد ويلبس أنظف الثياب ويأكل أطيب الطعام وذات يوم التقى برجل يلبس خيشا خشنا.. لم يكن الرجل يعرف ذلك القطب الجليل فقال له: «إن ما أراك عليه من نظافة الثياب وحسن المنظر لا يدل على الصوفية».. يقصد ليس فيه ما اشتهر عن الصوفية فى شىء.
واستطرد الرجل: «لو كنت صوفيا للبست مثلما ألبس ولزهدت فى متع الدنيا كما أزهد».
قال الشاذلى: «يا هذا إن الزهد ليس كما تعلم.. الزهد أن تملك فتعف.. الزهد أن لا تؤمن بأن ما تملك ملكك.. يا هذا كم ملكت من جناح بعوضة حتى تزهد فيه؟.. الدنيا كلها إن ملكتها لا تساوى جناح بعوضة ولو كانت تساوى جناح بعوضة لما سقى الله الكافر شربة ماء.. يا هذا.. إن منظر العبد يدل على غنى سيده وهيئتى هذه تدل على أن ربى غنى كثير الفضل والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.. أما ثوبك هذا فإنه يتهم سيدك بالفقر وكأن من خلقك لا يستطيع كسوتك.. يا هذا عرفت معنى الزهد فالزم.. لو ملكت ما زهدت.. ولكن لا ينبغى أن تزهد فيما لا تملك.. إن التسامح لا يكون عن ضعف وإنما عن قوة.. والترفع لا يكون عن فقر وإنما عن ثراء.
بجانب ذكر الله والصلاة على رسوله تعتبر الصوفية حب آل البيت فرضا.
يقول الإمام الشافعى شعرا: «يا آل بيت رسول الله حبكم.. فرض فى القرآن أنزله».
وفى بيت آخر: «يكفيكم من عظيم الفخر أنكم.. من لم يصل عليكم لا صلاة له».
هكذا يرد الشافعى على اتهام الصوفية بالبدعة ويؤكد ذلك فى بيت ثالث: «لو كان حبى آل أحمد بدعة.. فإننى بتلك البدعة مكتف».
إن حب آل البيت يربط المؤمنين بقواعد الدين ولا يخرجهم عنه.. فأمة لا يربط بينها الحب لا شك سيسيطر عليها الكره والبغض.. وستظل متنافرة.. متناثرة.. متناحرة.. متباعدة.. متخاصمة.. متحاربة.. ونحن فيه الآن.
إذن الصوفية تقوم على ذكر الله والصلاة على رسوله وحب آل البيت وكلها فرائض إضافية مكلف بها المؤمن ولو لم يسمى نفسه صوفيا.
الصوفية محبة.. والمحبة ليست عبادة.. لكنها أساس الإيمان.. لقوله تعالى: «من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه».
ولا جدال أن الجهل فى تعريف الصوفية كان سر الحرب عليها ممن يرفضونها ويرمونها بالبدعة.
أما تعدد الطرق الصوفية فهو تعدد فى وسائل التعبير عن الحب.. تعدد فى وسائل التدريس والتعليم.. هو أمر لصالح الصوفية وليس عليها.
ولو كانت هناك صورة فردية خاطئة عن الصوفية فهى لا تنقص منها شيئا فعدم وجود صفة حميدة فى مسلم ليس معناه أنها صفة فى الإسلام.. فاللصوص والمرتشون والمختلسون قد يكونون مسلمين ولكن هل يعبرون بما فعلوا عن الإسلام؟.
إن الصوفية كتاب ضخم.. لم نقرأ منه سوى السطر الأول.. طريق طويل لم نقطع منه سوى الخطوة الأولى.. محيط عريض من المياه لم نجمع منه سوى قطرة واحدة.. وخيمة هواء عرضها السموات والأرض لم نستنشق منها سوى قطرات الندى وجدناه فى فجر الحب والإيمان.