أحمد سعده يكتب : الثورة المصرية في انتظار فجر الديمقراطية ..
عقود من الزمن عانى فيها المصريون الفقر والاستبداد بدرجات مفزعة، أدت لانتفاضة الشعب وثورته، لكنها اقتصرت على التغيير السياسي بإحلال نظام سياسي محل آخر، مع استمرار نفس النظام الاجتماعي السابق كعامل كئيب للغاية في ثورتنا، ودون الانتقال من نمط إنتاجي إلى آخر، ما وضعنا للآن أمام حقيقة واحدة، هي أن مصير ثورتنا كمصائر كل ثورات العالم الثالث السياسية الشعبية، وهى مصائر غير ملهمة على الإطلاق بانكسار الأحلام والتطلعات التي تطلقها في حينها، كمصريين مازلنا داخل السجن الفولاذي الذي وضعتنا فيه التبعية الاستعمارية، ولا انطلاق منه سوى باستقلال حقيقي يفتح الأبواب أمام تحول تاريخي نحو تنمية اجتماعية واقتصادية تعتمد بالأساس على خلق آفاق رحبة من التصنيع والحداثة والتطور، وترسيخ للمساواة والعدالة الاجتماعية.
وللتقدم بخطوات للأمام علينا أن ندرك ضخامة العثرات التي تقف حائلا دون تقدمنا، وأخطرها تلك الاحتمالات الوشيكة لحرب أهلية تتجمع نذرها وتلوح بوادرها في الأفق الآن بين المعسكر (القومي) والمعسكر (الاسلامي)، علينا الاستماتة في تفادي ويلاتها وشرورها، فربما تدق طبولها في المواجهات المرتقبة والمحددة بأجل مسمى على خلفية دعوات (تمرد) نهاية يونيو الحالي، أو في صدامات أخرى لاحقة أتمنى أن يخيب معها ظني ولا يصيب، ولأن المقارنة بين الفريقين تصب في مصلحة المعسكر (القومي) يسانده الجيش والقضاء والإعلام والقطاعات الحاسمة في الطبقة المالكة إضافة للثوار ممن ضاقوا ذرعا من الإخوان المسلمين وسلوكهم، فإن المتوقع ألا تمتد كما حدث في ليبيا أو اليمن السعيد، أو مازال يحدث في سوريا، بل أنها سرعان ما ستنتهي نظرا للتفوق العسكري والمادي الكاسح في صفوف المعسكر (القومي)، وصار التورط في هذه الحرب حتميا إلا إذا حدث تراجع إخواني شامل على كل الجبهات والمؤسسات بما فيها الرئاسة، وبالطبع فإن التحرر من كابوس الحكم الديني الاخواني السلفي تقتضيه ضرورات استمرار الثورة، لكن على الثوار أن يتفادوا تماما أي نوع من التنسيق أو التحالف مع المعسكر القومي الفلولي العسكري، ورغم تأكدي من عفوية بدايات حركة (تمرد) كحركة شبابية خالصة، الا أن هذا لا يمنع كما لم يمنع ثورة يناير، من الوقوع في مصيدة الثورة المضادة، وتحديدا توظيف اسقاط الاخوان لإعادتنا لنفس الدائرة المريرة من متاهات الدساتير والقوانين والشرعية التي تنتهي باستبداد عسكري مموه بغطاء ليبرالي وجماهيري، ويكفي التذكير أن ثوار يناير هم من صوتوا في استفتاء مارس على التعديلات الدستورية بنعم لإجهاض الثورة، بما يعني أن الجماهير الثائرة ذاتها يمكن تضليلها لتكون وقودا وأدواتا في أيدي الثورة المضادة، لذلك يجب أن يتخطى الثوار شعار الانتخابات المبكرة التي وإن تمت ستتم تحت حكم الاخوان بما يتناقض أساسا مع خلع مرسي ومبدأ الرفض الكلي للدولة الدينية وأحزابها وليس فقط سياساتها، خاصة مع التراجع التاريخي لمصر بما ينذر بأخطار كارثية أخشى حتى مجرد الإشارة إليها.
ومما لاشك فيه أن تيار الاسلام السياسي بقيادة الاخوان المسلمين، يقف حائلا دون تقدمنا للأمام وتنميتنا وتحررنا من التبعية، ولا يمكن تصنيفه سوى أنه ثورة مضادة تحارب قوى الثورة سرا و علنا، وحتى لا تأخذني نرجسية مضادة فإن حديثي عن أيديولوجيات ونوايا قادة وكوادر هذا التيار لا تنطبق بالضرورة على ملايين من مؤيديهم، وتكمن صعوبة هذا التيار في الأصولية الدينية التي تتسلح وتتزين بادعاء الفضائل الكبرى، متبنيه شعارات وهمية على أنها الحل السحري لكل الأزمات، والأداة التي من شأنها تحقيق العدل والمساواة بين البشر، لكن هذا التصور المتفائل لا يعدو أكثر من وهم خادع أثبتته التجارب على مر التاريخ، ولم يضفي سوى ألوهية وقدسية على حكم البشر، وآداه إضافية جبارة للاستغلال والقهر والاستبداد، تحت مسمى الدولة الدينية التي لم تكن في مضمونها الحقيقي سوى سلاحا أشد فتكا من أي دولة عادية في أيدي الطبقة الحاكمة، وضاربة عرض الحائط بأي قيمة جوهرية للمواطنة التي يشير اليها دستورنا السابق والحالي واللاحق بتوحيد منافق للشعب على أساس المواطنة في مادته الأولى وتمييز وتقسيم صارخ ومتناقض في مادته الثانية التي يؤيدها معظم ساستنا في اهانة واضحة لشعبنا وتنصل من كل قيم الحرية والعدالة والمساواة كلما تفوهوا بحديثهم عن الدستور، الاخوان المسلمون قد يخفى عنهم أن سفينتهم غارقة، لكن الثوار أيضا قد يخفى عنهم حقيقة أخرى، وهي أن سقوط الاخوان رغم ضرورته لن يقدم للواقع الاجتماعي الا وهما جديدا يتمثل في مشاعر إيجابية تتغنى بهذا السقوط الذي سينهي بؤس البؤساء وفقر الفقراء،
الثورة في كل الأحوال ستستمر سواء ضد الإخوان أو العسكر أو الليبراليون أو الشياطين ممن يحكمون أو سيحكمون، لكن تبقى العقبة الكؤود لانطلاقتنا نحو الحداثة والتصنيع متمثلة في أمر ثابت تواجهه بلدان العالم الثالث ممثلا في القوة الوحشية للإمبريالية العالمية، ذلك الغول الذي يحارب كل محاولات التنمية المستقلة، في اتباع منظم لسياسة استعمارية حقيقية هدفها ابقاء عالمنا الثالث على ما نحن عليه (مجرد أسواق أو أفنية أو حظائر أو زرائب خلفية للرأسمالية العالمية) كشرط ضروري لترسيخ الامبريالية وسيطرة الإمبراطورية الأمريكية على العالم.
لذا ينبغي أن يكون المضمون الحقيقي لثورتنا موجها ضد التبعية الاستعمارية والتخلف والاستغلال الاقتصاديين والفساد الشامل والقهر السلطوي والسير نحو الاستقلال الحقيقي المبني على أساس متين من الديمقراطية الشعبية،
وبدلا من الاعتماد على اقتصاد هش لا تمثل الصناعة فيه أكثر من عشرون بالمائة، إما بين صناعات خفيفة أو استخراجية كصناعة البترول الذي لا يخلو من الشراكة الأجنبية، فكيف لهذا الاقتصاد أن يرفع مستويات المعيشة أو يمتص معدلات البطالة، وكيف لنا أن نحلم بتحقيق العدالة الاجتماعية في ظل هذا الاقتصاد الهش؟، غير أن هذا لا يردعنا عن الثقة في القدرة الكامنة والرغبة الحقيقية في الوصول لتنمية اجتماعية واقتصادية شاملة تتوغل في كل الطبقات الاجتماعية شبرا شبرا، وبيتا بيتا، ودارا دارا، وزنقة زنقة، وفقا للشعارات الدموية للقذافي في نهاية عهده، تنمية قوامها الصناعة والعدالة كأدوات رئيسية للتخلص من التبعية والانطلاق نحو نظام رأسمالي حقيقي منافس يخرج بنا من أنماط الإنتاج التقليدية الموروثة عبر القرون إلى نمط الإنتاج الرأسمالي كمقدمة طبيعية للخروج من الوضع الراهن بعيدا عن الشعارات الاشتراكية الثورية التي أثبتت التجارب على مدى التاريخ حقيقتها الجوفاء، ولا ننسى أن العامل الزمني مهم للغاية، لأننا في حين نقتل الوقت فإنه يدفننا، وباختصار لامجال لإضاعة الوقت أكثر من ذلك في صراعات طيفية وطائفية، تعوق السعي نحو الوصول لديمقراطية حقيقية تفتح لنا أبواب الانطلاق.
الديمقراطية ليست ذلك المجهول أو الضائع، وليست تلك الصناديق الانتخابية المزيفِة لإرادة غالبية الشعب من ضحايا الاستغلال والاستبداد وغسيل المخ في مجتمع طبقي، الديمقراطية هي التحرر من أي سيطرة أو تبعية، الديمقراطية هي الوعي الكامل لأفراد الشعب بمصالحهم الحقيقية، ولأن الغالبية السكانية من الشعب تنتمي إلى الطبقات الشعبية والفقيرة والمهمشة، فالنموذجي هو وصول ممثلين منتخبين من تلك الطبقات إلى السلطة لإعادة تنظيم الدولة وفقا لمقتضيات مصالح الشعب، لكن هل يحدث ذلك حتى في أفضل حالات نزاهة الانتخابات ؟؟ بالقطع لا، لأنها ببساطة لم تأتي بممثلين حقيقيين لمصالح الشعب ولا بممثلين ممن ينتمون لتلك الأغلبية الشعبية الكاسحة للناخبين، لكنها أتت بأعداء حقيقيين لمصالح تلك الطبقات الشعبية ممن ينتمون لطبقات مالكة أو من ينوبون عنهم، وتلك مشكلة مشتركة في انتخابات العالم الثالث لأننا نكون بصدد نوعين من التزوير، إما مباشر فيما يخص جداول الناخبين، والعملية الانتخابية، واعلان النتائج المسبقة الاعداد، واما تزوير غير مباشر فيما يخص الجهل والأمية واليأس والإحباط لدى الناخبين وعدم ربطهم للمصالح الحقيقية لغالبية الشعب بالدور الحقيقي لأصواتهم، ولأن المال هو إله العصر فيكون آداه كبرى للتزوير بشراء الأصوات والشحن بالأتوبيسات من مؤسسات الدولة، إضافة لاستخدام دور العبادة في عملية الدعم والتصويت بحسب الانتماءات الايديولوجية، وإذا كانت الأمور كذلك فلماذا الحديث عن ثورة مضادة غامضة وملغزة رغم انها واضحة البيان ومطلقة السراح وتجلس على العرش وتمسك بزمام السلطة؟
ولأنني لا أرى أملا في وصول الثورة لسلطة الدولة على الأقل حاليا فعلينا ألا ننتظر التغيير من أعلى، ليست نصائح بالطبع مني قدر ماهي استنتاجات ورؤية شخصية، وفي كل الأحوال فإن كتاباتي ليست بالأمر البالغ الأهمية رغم أن بعضا منها يلاقي نوعا من الترحيب عند بعض الجمهور من القراء، الأمل الوحيد معقود على بناء مؤسسات الديمقراطية من أسفل، ديمقراطية تعطي الشعب قدرة على ممارسة حقوقه الإضرابية، وتطور وتغذي أدواته النضالية الشعبية، ديمقراطية تعني بالتعليم والبحث العلمي والأدب والفن والثقافة وتساعد على ازدهارهم، ديمقراطية تكون بمثابة القدرة الكلية لمؤسسات الشعب الحقيقية على إجبار الدولة ونظامها وسلطتها على تحقيق مطالبه، ديمقراطية تواصل النضال في سبيل إقامة نظام اجتماعي جديد، باختصار هي الشعب عندما يمارس كل ما تقتضيه مراحل تطوره وتقدمه وتحرره من خلال مؤسسات تنتمي إليه.