سالم أحمد سالم يكتب: عمِنا أبو نواس

ركن القراء

سالم أحمد سالم
سالم أحمد سالم


مقهى ذات طابع شعبي، مثل مقاهى الريف الهادئ، افترش صاحبها الكراسي والترابيزات القليلة بالداخل والخارج، تنتشر بها رائحة الشيشة التى حُرِمت منها فى مرحلة الطفولة، بها ركن امتلكه رجل فتيل العضلات، مثل فريد شوقي، يرتدي جلباب بلدي، مثل العُمَد وكبار السن في الصعيد، يجلس على كرسي مُختلف عن باقي كراسي القهوة، لم يقع عليه نظرى إلا ورأيته يحاول رسم «الدور» بنضارة الشمس ذات اللون العسلي التي لا يخلعها إلا عند وقت المغرب، حتى أنّنى لم آراه ولو لمرة واحدة دونها، كان يحاول المعلِم افتعال حركات بهلوانية وتوجيه أسئلة غريبة لـ رواد القهوة حتى يظنوا أنه مُخبِر في المباحث السرية، لا أعلم مدى الاستفادة التى تعوّد عليه من هذا، لكن الأكيد أنه يعلم ماذا يفعل.

الغريب، والذى أكدته لنفسي فى ذلك الوقت؛ خاصة لحظة انشغالي باستنشاق رائحة المعسل الزغلول، أو القص، لا أعلم حتى الآن الفرق بينهما، أنه يعمل لصالح مركز تتبع المُجرمين، كوّنه يُتابع النشرة الإخبارية عن كثب، رأيته يدوّن معلومات، يكتب أسماء أشخاص، ظنت أنهم أهل الشر، الذين سعوا فى الأرض فساداً. بعد يومين من متابعتى لشبيه فريد شوقي، عند ترددي على المقهى؛ تحسباً لـ لقاء أحد شيوخ صاحبة الجلالة، والذى اعتاد الجلوس عند أبو نواس، اكتشفت أنّنى كنت ظالماً، خدعتني أجندة أبو نواس الزرقاء، كان الرجل يُتابع حقوقه، يكتب صادر المشروبات، القهوة بخمس جنيهات، الشاي وحجر المعسل بجنيهان.

بعد الذى رأيته، عزمت على البقاء بالقرب من ذلك الرجل، خاصة عند متابعته النشرة الإخبارية. عَلِمت منه، بعد أن دار الحديث بيننا، يحكى مواقفه مع المنايفة، وانا أستمع دون ملل، أن له اِبن التحق بسلاح المشاه، وسيقضي عاماً بمنطقة بئر العبد بمدينة سيناء. يؤكد أنه لا يخشي على نجله الموت، صدمنى بجرأته، بعد أن رأيت صوراً لنجله، كان يرتدى قميصاً أسود فى جميع صوره، وكأنه مُستعد لـ الحُزن. حمّل أبو نواس تلك الصور فى محفظته طوال الوقت، هى المؤنس له وقت وحدته.

مرت الأيّام والشهور، اعتادت خلالهما، بعد أن تأقلمت على حياة القاهرة، وهزمت شعور وِحدة اليوم الأول، على صُحبة أبو نواس، عرفته مُحللاً سياسياً وناقداً رياضياً ومُغرماً بالسيدات ذات القوام الممشوق. كان يتَّبع المذهب الصوفي، مُتيم بآل البيت، لم يعرف الحُزن بابه، سوى فى ذلك اليوم.

«قتلوا الناس فى الجامع» كلمات نطقها الرجل الصلب ودموعه تحاول الهروب من جفن عينه، وقف صامتاً يُتابع حادث مسجد الروضة، الذى يقع بقرية الروضة والتي تبعد عن العريش مسافة 50 كم، وتبعد عن بئر العبد «كتيبة ابنه» قرابة 40 كم بمحافظة شمال سيناء. كانوا أعلنوا فى ذلك الوقت عن سقوط 305 قتيل و128 مصابا. أبو نواس أكد لنفسه أن ابنه نال الشرف، رغم نفى الجميع ذلك، حتى جابر ذلك الصبي البهلوان، رئيس قسم الشيَّش بالقهوة. كنت عاجزاً لا أمتلك أى أنواع الشجاعة؛ لمواساة صديقي العجوز. خشيت أنا الآخر، وانتابنى شعور الخوف، كنت لا أعلم المسافة بين مكان الحادث ومنطقة القُسيمة، تلك التى تمركز بها شقيقي طوال أشهر جيشه. ذلك الشجاع الذى تخرج من كلية الحقوق، والذى أصّر على الذهاب إلى أرض سيناء الحبيبة.

اليوم، وفى ذكرى العاشر من رمضان، وبعد مرور قرابة العام ونصف، على ذكرى حادث مسجد الروضة، واستشهاد نجل أبو نواس، وبعد أن سَطَرَت الروايات قصة الشهيد، الذى فَضَل القُرب من شوارع بئر العبد، المدينة الطيبة، حتى استُشهد برصاصات الغدر والخيانة. يقف صديقى العجوز، شامخاً كالطود، يتجول بشوارع قريته المندرة بالفيوم، عند صباح الجمعة من كل أسبوع، حيث يوم أجازته الوحيد، بعد أسبوع عمل شاق بمقهى القاهرة. حكى لي أنه اعتاد زيارة قبر ابنه قبل دخول القرية، لإلقاء السلام عليه وقراءة الفاتحة، لروحه الطاهرة، وتوزيع هدايا جلبها من شارع المعز بالقاهرة، حسبما قال لي، قبل يومين.