عادل حمودة يكتب: مفاجأة سياسية فى يوليو المقبل.. نشر مذكرات "هيمنجواى" السرية التى كتبها عن السلطة الفاشية
رصد شنق موسولينى فى محطة بنزين وانتحار هتلر فى مخبأ تحت الأرض وضرب باتيستا بالأحذية فى هافانا وتنبأ برئيس مثل ترامب يحكم أمريكا
الكتابة لغة عالية التوتر.. كلمات مجنونة تبحث عن حكمة مفقودة.. انقلاب حضارى يغير حياة البشر دون تفجير أو تدمير.. خروج عن المألوف من قوانين الرتابة يعكس قيم العدالة.. حفلة من الألعاب النارية تجنبنا الاضطرابات العقلية.. شرارة حرية تولد النماء والرخاء وتجهز على الفناء.. رغبة متوحشة تقتل من يعجز عن السيطرة عليها.
هكذا عاش وكتب وأبدع وتألق وانتحر الكاتب الأمريكى أرنست ميلر هيمنجواى الذى لا تزال شخصيته وأعماله ملهمة حتى اليوم.
فى صيف مبكر من حياتى قرأت رواية العجوز والبحر.. صياد هرم.. حاول طوال ثمانين يوما أن يعود إلى بيته بما يطعمه ولكنه فشل.. وذات يوم علقت بسنارته سمكة شرسة.. أكبر من حجم قاربه.. ظل يصارعها أسبوعا برفقة ضوء القمر حتى تمكن من السيطرة عليها وجرها إلى الشاطئ.. على أنه لم يسلم من هجمات أسماك القرش التى جذبتها رائحة الدم.. وانتصرت عليه والتهمت السمكة تاركة إليه هيكلها العظمى الذى نصبه فى ساحة القرية وسط دهشة أهلها وإعجابهم.. وتحول الصياد سانتياجو إلى أسطورة ليجسد حقيقة يصعب تجاوزها: يمكن هزيمة الإنسان ولكن لا يمكن قهره.
دفعتنى تلك الرواية التى نال عنها هيمنجواى جائزة نوبل للأدب (عام 1954) إلى الجنون به.. قرأت ما نشر من روايات.. تابعت ما كتب عن سيرة حياته.. شاهدت الأفلام التى جسدت شخصيته.. وزرت بيته فى جزيرة كى ويست الذى حولته ولاية فلوريدا إلى متحف قومى.. وزرت بيته فى جزيرة فيجا الكوبية وسط غابات كثيفة من الخضرة تستولى على 15 فدانا.. واستأجرت الغرفة رقم (511) فى فندق أمبوس موندوس المطل على شاطئ المحيط فى هافانا حيث كان يخلو لنفسه ليكتب أحيانا.. ومؤخرا وجدت فى انتظارى مفاجأة ستتفجر فى يوليو القادم.
يوليو يظل الشهر الأهم فى حياته وبعد مماته.
ولد فى يوليو 1899.. الأم صارمة.. متدينة.. متزمتة.. حولت البيت إلى كنيسة.. والأب طبيب.. مغامر.. مولع بالصيد.. وفى سن العاشرة أهداه أبوه بندقية صيد ظلت ترافقه طوال حياته إلى أن قتلته برصاصة خرجت منها اخترقت رأسه.
وفى البيوت التى سكنها علق على جدرانها رءوس حيوانات متوحشة اصطادها بنفسه وبجانبها معدات صيد كل ما يشاء من المخلوقات فى البر والبحر.
فى يوليو 1918 بدأ العمل الصحفى مراسلا عسكريا لصحيفة كنساس ستار ليتابع الحرب العالمية الأولى التى انتهت بإصابة أدخلته غرفة العمليات أكثر من مرة وعندما خرج منها على قدميه كان يحمل نوط الشجاعة ورتبة ملازم أول.
فى يوليو 1922 هاجر إلى باريس ليكتب رسائله إلى صحيفة تورنتو ستار ومنها مقابلات مع شخصيات مؤثرة فى زمانها.. على رأسها رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو الذى قاد بلاده فى سنوات الحرب العالمية الأولى.. والنجم الصاعد فى الفن التشكيلى: بيكاسو.. وبينيتو موسولينى رجل إيطاليا القوى.
مأساة الحرب التى عاشها هيمنجواى جعلته شديد الحساسية فى الحكم على البشر مهما ارتدوا من أقنعة وتخفوا وراء ماكياج ويؤكد ذلك أنه أول من تنبأ بأن موسولينى سيكون فاشيا رغم تمسكنه الظاهر فقد راح يتحدث عن معجزة السماء التى أتت به إلى أوروبا لينقذها من متاعبها دون أن يقرأ كتابا عنها أو يقبل برأى آخر غير ما يعرف فهو المغنى الوحيد وباقى الشعب كورس.
فى تلك الفترة بدأ هيمنجواى ظاهرة عبادة الفرد فى النظم الخالية من الديمقراطية التى جسدها ستالين فى روسيا وفرانكو فى إسبانيا وماو فى الصين ولكن الغريب أن ما سجله هيمنجواى من ملاحظات وما كتبه فى صورة خطابات لم يرسلها إلى أحد ظلت بعيدة عن النشر حتى اليوم.
فى يوليو 1925 شهد هيمنجواى للمرة الثالثة مهرجان سان فيرين فى لشبونة حيث تشترك الثيران والبشر فى مصارعة علنية مثيرة بين طرقات المدينة وهناك التقى بمجموعة من الغرباء الذين نجوا من الحرب العالمية الأولى واستلهم منهم رواية: والشمس تشرق أيضا التى نشرها بعد عام ولفتت الأنظار إليه رغم أنها عمله الأدبى الثانى بعد ثلاث قصص وعشرة أناشيد.
ورغم أن زوجته الأولى مارى ويلزى كانت معه فى الرحلة إلا أن هيمنجواى وقع فى غرام امرأة تعاشر رجلا آخر بل إنه لم يخف شعوره بالغيرة عندما عادت مع صديقها إلى باريس ودون مواربة كشف عما أحس به فى الرواية.
كانت المرأة إحدى مفاتيح هيمنجواى وكان يعتبرها مصدر السعادة ومكافأة الله للرجل على حسن عمله ويسجل بقلمه: حب النساء يحتاج صحة جيدة وذاكرة ضعيفة ولكن رغم زواجه من أربع نساء فإنه لم ينس حبه الأول أجنيس فون كورفسكى التى كانت تكبره بتسع سنوات وتزوجت من ثرى إيطالى ولكنها ظلت تطارده فى حياته حتى لم يعد يحتمل فأطلق النار على رأسه ليموت سعيدا وصورتها آخر ما رسمته عيناه.
قتل هيمنجواى نفسه ليكمل مسلسل الانتحار فى عائلته الذى بدأ بالأب وامتد إلى أختيه غير الشقيقتين وانتهى بحفيدته فيما بعد.. إنها لعنة من نوع خاص.. إما أن تعيش كما تريد وإما تترك الحياة بإرادتك.
فى يوليو 1933 بدأ هيمنجواى فى التردد على كوبا التى تبعد عن ميامى (فلوريدا) بأميال بحرية قليلة وهناك كتب روايته: الفائز يخرج صفر اليدين ثم توقف عن النشر ليعود برواية: روابى إفريقيا الخضراء وبحثا عن مزيد من الإثارة التى يكتسبها بمشاعر الخطر راح يغطى الحرب الأهلية فى إسبانيا لتتضاعف كراهيته للفاشية التى زرعها هناك فرانشيسكو فرانكو.
التقى هيمنجواى بفرانكو وهو رئيس للحكومة بعد انتهاء الحرب الأهلية وسجل ملاحظات شخصية عنه لم تنشر إلا فيما بعد قال فيها: إن ذلك الديكتاتور السفاح كان يقتل معارضيه متصورا أنه ينقذ بلاده من التمزق والتشتت ولكنه فى الحقيقة كان يزيد من التمزق والتشتت فلا يمكن تأميم اختلافات البشر دينيا وسياسيا وتحويلهم إلى نموذج واحد تلك نظرية عفا عليها الزمن وسيثبت فشلها مهما طالت سيطرتها وهو ما حدث بالفعل فيما بعد عندما أعاد فرانكو السلطة للملكية التى سمحت بالتعددية الحزبية ونجحت فى خلق نظام ديمقراطى حقق الاستقرار والرخاء للبلاد.
فى الحرب العالمية الثانية خدم هيمنجواى على ظهر سفينة حربية أمريكية مهمتها تدمير الغواصات اليابانية بعد أن آمن بأن عليه المساهمة فى مواجهة التوسعات النازية الألمانية والفاشية الإيطالية وعاد إلى كوبا ليكتب رواية: لمن تدق الأجراس التى باعت مليون نسخة فى أقل من سنة وباعها للسينما مقابل 150 مليون دولار وكان ذلك رقما قياسيا وقتها.
كانت كوبا تحت حكم ديكتاتور من نوع آخر هو لفوجنسو باتيستا ساندته الولايات المتحدة بالقوة المسلحة وعملاء المباحث الفيدرالية ووكالة المخابرات المركزية لمنع فيدل كاسترو وشى جيفارا من إسقاطه.
فى ذلك الوقت من خمسينيات القرن الماضى كانت هافانا مركز المتعة للأثرياء الأمريكيين حيث انتشرت كازينوهات القمار وشواطئ الاستجمام وبيوت الدعارة وتجارة المخدرات والقصور المترفة التى تشى بروعة العمارة الإسبانية والسيارات الأمريكية الفارهة التى بقيت رمزا على ما كانت عليه هافانا حتى اليوم.
وقف هيمنجواى إلى جانب الثوار بعد أن اغتالت الشرطة السرية أقرب الأصدقاء الكوبيين إليه ولم يتردد فى تهريب السلاح إلى رفاق كاسترو حتى أصبح مطاردا من إدجار هوفر المدير الشرس للمباحث الفيدرالية الأمريكية الذى سعى إلى اغتياله بعد أن حرض عليه هيئة الضرائب الحكومية فأخذت منه كل ما كان يدخر من مال يعينه على المعيشة بعد أن توقف عن الكتابة ولم يعد أمامه سوى القبول بإنفاق زوجته الأخيرة الثرية عليه مما ضاعف من شعوره بالاكتئاب.
لكن كان هناك سبب آخر جعل هوفر يسعى للانتقام منه أن هيمنجواى كان أول من كشف شذوذ هوفر وهو يحتفل بعيد ميلاده على سفينته الصغيرة بعد أن وثق فى ضابط شرطة صغير بعث بالسر إلى هوفر.
كان هوفر قويا فى مهنته.. طور جهازه حتى نافس باقى الأجهزة الأمنية.. وظل فى منصبه 33 سنة.. خدم فيها ثمانية رؤساء من فرانكلين روزفلت إلى ريتشارد نيكسون.. والغريب أن الذى أبلغ هيمنجواى بمطاردة هيمنجواى كان زعيم المافيا فى كوبا قبل وصول كاسترو إلى السلطة.. وكان تبريره: إنه أحب كتابات هيمنجواى.
فى يوليو 1960 التقى هيمنجواى بالثائر الشاب كاسترو ثلاث مرات فى حوارات استمرت عشرين ساعة بعدها قرر هيمنجواى مغادرة كوبا والعودة إلى بلاده بسرعة تاركا كل شىء فى بيته على حاله دون أن يفصح عن السبب.
أغلقت السلطات الكوبية البيت دون أن تمس ما فيه وعبرت عن حبها لهيمنجواى بوضع صورته فى كل مكان وتحتها عبارات من رواياته تخليدا لذكره بعد انتحاره ولمست ذلك بنفسى فى رحلتى إلى هافانا عام 2008 بعد أن انفتحت كوبا على العالم.
فى يوليو 2019 ستنشر عشر مجلات أمريكية وأوروبية مذكرات سياسية مجهولة لهيمنجواى عثر عليها بعد فتح بيته على أثر إعادة العلاقات بين واشنطن وهافانا بمبادرة من الرئيس باراك أوباما وبعد أن فقد كاسترو الذى أعجزته الشيخوخة دعم موسكو بسقوط الاتحاد السوفيتى.
القليل الذى نشر من هذه المذكرات يشير إلى أنها تسجل تجاربه مع الزعماء الذين حكموا شعوبهم بالحديد والنار بمن فيهم كاسترو ذاته.
يسجل هيمنجواى بلغته الأدبية السلسة والمباشرة لحظات شنق موسولينى فى محطة بنزين خارج روما وانتحار هتلر فى مخبأ مجهول جرى هدمه فوق رأسه وضرب باتيستا حتى الموت فى قصره بعد اقتحام الثوار والاستيلاء عليه.
وتنبأ هيمنجواى بسيطرة الفاشية على بلاده لو جاء إليها رئيس لا يؤمن بحرية الميديا ويتصور نفسه عبقريا ويعامل الخبرات السياسية والمالية وكأنهم نكرات ولا يمتلك ثقافة عميقة ويبدو أن هذه الصفات تنطبق على دونالد ترامب.
ويرى هيمنجواى أن الفاشية حالة نفسية لا حالة سياسية فمن الممكن أن نجدها فى دولة رأسمالية كما نجدها فى دولة شيوعية.
ولننتظر ما سينشر فى يوليو المقبل بمناسبة مرور 120 عاما على ميلاده ومرور 48 عاما على رحيله.