د. نصار عبدالله يكتب: يسوع.. ويهوذا
ربما كان أغلب الذين سمعوا باسم نيكوس كازانتزاكيس، ربما كانوا لا يعرفون عنه إلا أنه مؤلف تلك الرواية البديعة: «زوربا اليونانى» التى استمد منها المخرج السينمائى: مايكل كاكويانيس مادة فيلمه الشهير الذى حمل عنوان الرواية وقام ببطولته الممثل العالمى العبقرى: «أنتونى كوين»، ومع هذا فإن كازانتزاكيس له عدد آخر من الروايات التى لا تقل جمالا وإبداعا، والتى أهلته لأن يرشح لجائزة نوبل للآداب، لكنه عند التصويت خسر بفارق صوت واحد لصالح الأديب والفيلسوف الفرنسى ألبير كامى الذى يروى عنه أنه قال بعد فوزه بالجائزة إن كازانتاكيس يستحق ما هو أكثر وأكبر من جائزة نوبل وإنه وإن كان هو قد فاز بها فإن هذا لا يعنى بالضرورة أنه هو الأفضل والأجدر! وبالإضافة إلى زوربا اليونانى فقد تحولت بعض أعماله الأخرى إلى أفلام سينمائية شهيرة، ومن بينها رواية: «الإغواء الأخير للمسيح» التى ترجمت إلى عدد كبير من اللغات العالمية ومن بينها اللغة العربية، ومن هذه الرواية الأخيرة نقدم للقارئ العربى بمناسبة حلول ذكرى أسبوع الآلام الفقرات الآتية التى أوردناها بنصها مع تصرفات يسيرة وجعلنا لها عنوانا فرعيا هو: «يسوع.. ويهوذا».. «قال يهوذا ليسوع: ياابن مريم.. إننى لا أتواءم مع الآخرين، فلا أنا أتصف بطيبة ونقاء يوحنا.. ولا أنا حالم شارد الذهن مثل أندراوس.. أنا حيوان برى لا يقبل الحلول الوسط.. ولدت من زواج غير شرعى.. وأمى رمتنى فى البرية، وهناك رضعت من حليب ذئبة، فنشأت فظا، صلبا، صادقا، وحين أحب شخصا أصبح ترابا تحت قدميه، وحين أكره أقتل !.. «بل إننى قادر على قتل من أحب، إذا وجدت أنه يحيد عن الصراط المستقيم «.. «وما هو الصراط المستقيم، يا يهوذا، يا أخى؟».. « تحرير أرض إسرائيل «.. أغمض يسوع عينيه ولم يجب.. وكان يتساءل بينه وبين نفسه.. لماذا فقط أرض إسرائيل؟ ألسنا جميعا إخوة؟.. أمسك به يهوذا من ذراعه وهزه وكأنه يحاول أن يوقظه: « هل تفهم، هل سمعت ما قلته؟ أجابه يسوع بعد أن فتح عينيه: «نعم، أفهم».. واستطرد يهوذا قائلا: «الجميع قد ينصتون إليك فاغرى الأفواه، إلا أنا: أنا لست عبدا.. أنا رجل حر، هكذا هى الأمور، وعليك أن تستغل ذلك أفضل استغلال».. .ـ « لكن الحرية يا يهوذا هى ما أريده أنا أيضا! «.. قبض يهوذا على كتف يسوع وهتف بروح متقدة: « أتريد أن تحرر أرض إسرائيل من الرومان؟.. « بل أريد أن أحرر النفس من الإثم! «.. انتزع يهوذا يده بعيدا عن كتف يسوع، وضرب قبضته بقوة على جذع شجرة الزيتون، وجأر قائلا، وهو يواجه يسوع ويرميه بنظرة حقد: «إلى هنا ويفترق طريقانا!.. أولا يجب تحرير الجسد من طغيان الرومان، ومن ثم يأتى تحرير النفس من الإثم!.. هذا هو الدرب الصحيح فهل تسلكه؟.. «إن البيت لا يبنى من السقف ثم إلى أسفل، بل يبنى بدءا من الأساس ثم يرتفع «.. «الأساس هو النفس يا يهوذا».. «بل الأساس هو الجسد» ومن هنا يجب أن نبدأ.. انتبه ياابن مريم.. أنا قلتها مرة ولن أعيدها.. اسلك الدرب الذى أشير إليه.. وبدأ يهوذا يخفض صوته وهو يقول «هل تتذكر أننى أنا من كشف لك ونحن فى الصحراء أن منظمة الأخوة قد انتدبتنى لقتلك، لكننى غيرت رأيى فى اللحظة الأخيرة، وأعدت خنجرى إلى غمده، وهربت من الدير عند الفجر كاللصوص؟ «.. «ولماذا غيرت رأيك يا يهوذا يا أخى.. لقد كنتُ مستعدا؟.. «رغبت فى الانتظار».. «انتظار ماذا؟».. لزم يهوذا الصمت برهة، ثم قال: «لأتأكد من أنك المختار الذى تنتظره إسرائيل».. كان جسد يهوذا كله يرتجف، وصرخ وهو يدلك جبينه الذى أصبح فجأة ينضح بالعرق: «لا أريد أن أتهور فى عملى وأقتل المخلص.. لا.. لا أريد ذلك، وأخذ نفسا عميقا، ثم تابع: «قلت فى نفسى، لعله هو نفسه لا يعرف بالأمر، الأفضل أن أتجمل بالصبر وأدعه يعيش بعض الوقت، فليعش.. لنرى أقواله وأفعاله، فإذا لم يكن هو المختار الذى ننتظره فسيكون هناك متسع من الوقت للتخلص منه.. هذا ما قلته لنفسى، ولهذا أبقيت عليك»!.. جعل ينفث لبعض الوقت وهو يجرف التربة بإصبع قدمه الكبير. وفجأة قبض على يسوع من ذراعه، وكان صوته أجشا ويائسا وهو يقول له: «لا أدرى بماذا أناديك.. ياابن مريم؟.. أم ياابن النجار؟.. أم ياابن داوود.. وهذا اللهب الذى يحرقك هل هو من رب إسرائيل أم من الشيطان؟ كما ترى ما أزال لا أعرف.. ولكن حتى أنت لا تعرف.. علينا نحن الاثنين أن نكتشف الجواب.. كان يسوع يرتجف من رأسه إلى أخمص قدميه.. «وماذا بوسعنا أن نفعل يا يهوذا يا أخى» كيف يمكننا أن نعثر على الجواب؟.. . «ثمة طريقة».. «وما هى»؟.. «نذهب إلى يوحنا المعمدانى»