"عايشين على الحسنة".. حكاية عاملات مسنات أنقذتهم الحمامات العمومية (معايشة)

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


مع رفع آذان العصر، تستعد أم ياسر، للذهاب إلى عملها بإحدى الحمامات العمومية بمحافظة القاهرة، تتلفَّع بعباءتها السوداء بعد أن ربَّطت حزام ظهرها الطبي؛ لتخفيف الضغط على مفاصلها طيلة ساعات العمل، تسمع نجلتيها وطْءَ أقدَامها من بعيد، يهرولن صوبها، كي تصطحبهن معها إلى وجهتهم المقصودة "معرفش أسيبهم في البيت لوحدهم.. بيجوا معايا منها يكونوا قدام عنية وكمان يسعدوني"، إذ يتحملن مهام إرشاد السيدات بالمكان المخصص لهن داخل دورة المياه الذي يفصل بينها وبين شطر الرجال جدار خرساني.
تستقبلهن أم محمود- التي انتهت للتو من عملها الذي يبدأ في السابعة صباحًا- بابتسامة شاحبة، تربَّت على رأس الفتاتان وتقبلهن، تنادى الأم عليهن بصوت يجمع بين النعومة والصرامة؛ لمساعدتها في تجهيز الطعام، قبل مغادرة زميلتها في العمل، كعادتهن اليومية "بنفضل على لحم بطننا لحد ما بنتجمع هنا ونأكل مع بعض الساعة 3 العصر أم محمود تروح واحنا نبدأ يومنا"، تقولها السيدة الخمسينية، مُمسكة قطعة قماشة بالية، بيدها اليمنى تنظف بها مرايا الحمامات، وبالأخرى تمسك كوب شاي صغير تحتسيه على عجل، كي تقوم بتنظيف "المرحاض البلدي" حتى الساعة العاشرة مساءً "ما بعرفش ارتاح دورة المية كل شوية تتملى مناديل ولازم اشقر كل شوية وانظفهم.. ده غير مسيح الأرضيات ممكن سبع مرات في اليوم بدل ما يجزيني صاحب الشغل ويمشيني".






وبالرغم من صحوتها، إلا أن النعاس يغلبها معظم الأوقات من شدة التعب، حتى يوقظها أصوات الوافدات على الحمام، فتقف وعلامات الشقاء والتعب تملىء ملامحها "عايشة أنا وولادي الأربعة على الحسنة دي وما ينفعش ارتاح لحظة"، تقاطعها زميلتها صاحبة الـ(51 عامًا)، والتي تعمل معها بنفس الشركة الخاصة التابع لها الحمام، ولكن موظفة بشكل رسمي بها "مالهاش مرتب.. أنا بس اللي متعينة هنا وباخد ألف جنية كل شهر". يجمعهن قاسم مشترك، وهو الفقر الذي دفعهن ليكن في هذه المهنة التي لا تلبي إلا الاحتياجات الضرورية لأسرهن.






"الحمام بالنسبة ليا راحة.. أرحم عليه من الخدمة في البيوت"، تقولها أم ياسر- الذي بتر رجله اليمنى منذ عدة سنوات بعد أن تزوج وأنجب ستة أبناء، لتكون الجدة الأرملة هي المعولة لهم بجانب أبنائها الثلاثة-، تطلق تنهيدة طويلة تؤكد بعدها أن صحتها لم تتحمل أعباء تلك الروتين اليومي، التي حاملته على عاتقها منذ زواجها واشتد عليها بعد وفاة زوجها الذي كان يعمل "أرزقي" على باب الله "يوم بشتغل ويوم لأ.. وكان لازم أساعده فكنت بخدم دي ودي لحد ما ظهري انحنى.. ومالقتش غير تنضيف الحمامات يناسب صحتي.. واللي ما يعرفش يقرأ ويكتب مالوش غير عيشتي".
يوم الأرملة الخمسينة، لا يتعدى بعض الجنيهات، ولا تمتلك سوى معاش برنامج " تكافل  وكرامة"، من قبل وزارة التضامن الاجتماعي لا يتعدى (350 جنيهًا) شهريًا، تدفعه إيجارًا لشقتها الصغيرة في إحدى المناطق الشعبية بمنطقة شبرا الخيمة، مترجية الحكومة أن توفر وظيفة لابنها الكبير، وأن تزيد "التضامن" معاشها من أجل تربية أطفالها وإكمال دراستهم، خاصة أن نجلتيها متفوقات في صفوفهم الدراسية "بتمنى يكملوا تعليمهم وما يعيشوش نفس تجربتي وتجربة اخواتهم الصبيان"، فابنها الثاني أيضًا "أرزقي"، يعمل يوم والآخر ينتظر كي تلبي احتياجاته. 







فَترتْ حرارة الطقس بعض الشىء، عادت لها زميلتها أم شريف، بعد أن أنهت ورديتها الأولى في الثالثة عصرًا، للعمل لقضاء بعض الساعات الإضافية، في أغلب الأوقات كي توفر عدة جنيهات؛ نظرًا لأن مرتبها الشهري التي لا يتعدى ألف جنيه، لا يكفي احتياجاتهم اليومية "أهو بطلع بحسنة تساند مع المرتب"، خاصة أن زوجها توفى ولن يترك لها أي ضمان معيشي، حتى الوحدة السكنية الذين كانوا يعيشوا فيها ايجارها لا تستطيع تسديده فـ(500جنيهًا) يعتبر نصف مرتبها، وأبنائها الأربعة لا يستطيعون توفير هذا الملبغ شهريًا "أرزقية وعلى الله يوم ما بيجيوا 50 جنيه يبقى نعمة وفضل".

تعلو أصوات الوافدات، ويرتفع رنين الهواتف، تبتسم ابتسامة صامتة لهن، فينجذبن صوبها قبل مغادرتهن إلى الحمام ليطلوا عليها بعين الرحمة، فيبادر بعضهن بالمزاح معها وإعطائها بعد الجنيهات "الحمدلله.. أنا ما بتمناش غير أن أكل ولادي.. ومش هتكون الحياة أصعب من إننا نتغطى في عز الشتاء ببطانية واحدة". 

حياة بائسة عاشتها صاحبة الـ(51 عامًا) منذ طفولتها، إذ أنها كانت تنتمي لأسرة فقيرة، لذا أسرع والدها بزواجها، وكان من الصعب بعد وفاة زوجها أن تلجأ إلى أهلها، نظرًا لوفاة والديها، ولضيق حال أشقائها، فبدأت تعتمد على نفسها، عقب أن طرقت أبواب عدة باحثًا عن عمل يسد رمق أسرتها، ولم يحنُ عليها سوى "الحمام العمومي".






سئمت أم شريف، روتينها اليومي، خاصة في الصباح حتى اعتادت على الصمت، تشاهد وتستمع إلى حوارات الوافدات، وهي تعمل برفقة زميلتها التي تعمل في هذا المكان منذ ما يقرب عدة سنوات، حتى خارت عزيمتها، خاصة أنها تعود إلى منزلها ينتظرها العديد من المهام التي على رأسها تجهيز طعام لوالدتها المريضة وبعد أن تفرغ من أطعامها وإعطائها الأدوية، التي أصبحت مسئولية أخرى لا تستطيع على تلبيته في معظم الأحيان "الدوا كل يوم بيغلى ومعنديش راتب ثابت"، برغم من توافد السيدات في الفترة الصباحية على الحمام-فترة عملها التي تبدأ من الساعة السابعة صباحًا حتى الثالثة عصرًا-، إلا أن الجنيهات التي توفرها لا تلبي سوى اطعام أسرتها "على الأقل بأكلهم ولو فول وطعمية".

لا تستطتع أم محمود، على العمل الإضافي لاهتمامها بوالدتها، وأبنائها الصغار، فتمتلك سبع أبناء أكبرهم لديها (24 عامًا)، تزوجت قبل انفصالها من زواجها بعام، وبعد انفصالهما خرجت للعمل، من أجل أسرتها وزواج ابنتها الثانية "كنت بشتغل ليل نهار لحد ما صحتي راحت.. بس المهم سترت بنتي.. وابني أهو بيساعد وايد على ايد حتى لو جنيه بينفع مع جنيه من هنا واهي عيشه وربنا سترها".