أربع سنواتٍ من الغياب، لم تتأخر والدة الأسير محمود جاسر العطاونة، يومًا عن فعاليات مسيرات دعم ومساندة الأسرى، بعدما أطلق قوات الاحتلال الإسرائيلي كلابهم صوب نجلها الأصغر قرب السياج الفاصل شرق خان يونس جنوب قطاع غزة، وقامت باعتقاله، قاطعة كل وسائل الاتصال بينه وبين أسرته، حتى ظلت أمنية الأم المكلُومة التي تعيش على تحقيقها سماع صوته "اسمع صوت كحته تدبح صدري كل يوم كأنه يناديني لخلاصه من يد اليهود الذين منعوا عنه العلاج.. ويتعمدون موته بالربو وتعذيبه بالبطىء"، لتتبدد همومها مع نبأ انتصار الأسرى الفلسطينيون على إدارة مصلحة سجون الاحتلال في معركة الكرامة الثانية، والموافقة لأول مرة في تاريخ الحركة الأسيرة والسجون على تركيب هاتف عمومي في كافة أقسام السجون، تزامنًا مع "يوم الأسير الفلسطيني".
تمر الساعات بطيئة وموحشة على السيدة الخمسينية، التي لم يستطع أحد اقناعها بالعدول عن مشاركتها في فعاليات دعم الأسرى، بالرغم من مرضها الذي ينهش جسدها منذ أعوام عدة، إلا أنها حرصت لاسيما في يوم الأسير الفلسطيني- الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني، عام 1974، خلال دورته العادية يوم السابع عشر من أبريل، واعتبره يومًا وطنيًا للوفاء للأسرى الفلسطينيين وتضحياتهم، باعتباره يوماً لشحذ الهمم وتوحيد الجهود، لنصرتهم ومساندتهم ودعم حقهم بالحرية، حيثُ يحييه الشعب سنويًا بوسائل وأشكال متعددة- عن إثبات وجودها مع المتضامنيين، آملة خروج نجلها في تبادل الأسرى "بديش أموت قبل ما أشوف ابني وأضمه".
فالسنوات التي قضاها الشاب الأسير، صاحب الـ(24 عامًا)، بعيدًا عن أسرته حسبتها بدقة، خاصة وأنه لم يرى ابنته الصغرى "دانا" حتى بـ"صورة" تطفىء نار لهفته على معرفة ملامحها، وتراه زوجته كحلم بعيد طال انتظاره، لاسيما أن فترة زواجهما التي أمضتها معه قصيرة، وزياراتها له لا تتعدى ثلاث مرات، إذ منعت منها هي ونجلها "حمزة"، والذي يكرر على مسمع الجدة أسئلة عدة من بينها متى يرجع أبي؟ ولماذا يحدثنا من خلف القضبان؟، لترد بحزم اختار أن يقاوم من أجل أرضه "هو فاهم إيش بيدور لأني أخدو معي ويحمل صورة أبيه.. ودايما يضمها ويحكيها.. مشتقلك أبي".
أخبار "محمود"، البسيطة تعلمها الأسرة عن طريق الزوجة، الكائنة معهم بنفس العقار، والتي تتذكر وضعه الذي أوْهنه المرض، من الإهمال الطبي بحقه، حتى ترسخت في ذهنها صور سوداوية ممزوجة بالألم، جعلتها تتصدر الصفوف الأولى في المسيرات المتضامنة مع إضراب الأسرى - الذين يُقدر عددهم 5700 أسير من بينهم 47 امرأة و250 طفل يقبعون في سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي، وفقا لتقرير شامل لهيئة شؤون الأسرى والمحررين-، إيمانًا منها بتأثير ذلك على إدارة سجون الاحتلال "احنا كاهل أسرى لا حول ولا قوة لنا.. والتضامن أكثر ماهو اشي معنوي للأسرى فهو ضغط على اليهود بعدما حاولوا يهدوا من عزيمتهم"ـ معتبرة أن توحد الأسرى بالسجون وإضرابهم عن الطعام صراع في رأس اليهود، فهو أقوى من سلاحهم "قبل هيك اليهود خدعوا للاسرى خوفا من قلب المجتمع الدولي عليهم.. ودعمنا أقل اشي نقدمه لهم".
وبالرغم من انتصار الإضراب، إلا أن شقيق الشاب الأسير الأكبر، يرى أن السجان ليس محل ثقة، لذا فإن المعركة لم تنتهي بعد، فالمرحلة الأصعب هي تنفيذ إزالة أجهزة التشويش المسرطنة، والسماح لهم باستخدام الهواتف، فهو لم يتحدث مع شقيقه منذ فترة اعتقاله سوى مرات لم تعد، آخرها قبل ما يصير اقتحامات السجون منذ ستة أشهر. تضمنت المكالمة توصيات العم على أبناء شقيقه "دير بالك على ولادي وعلى مرتي"، ليتحمل مسؤلية كبيرة في ظل غياب الأخ الذي كان يقاسمه متاعب الحياة الصعبة في قطاع غزة، بالإضافة لمساندة والدته في مرضها التي اشتد عليها بعد اعتقال "جاسر"، مرددًا في كل تظاهرة "هتسمعي صوته يا يما.. ابنك راجع"، محاولاً إخفاء معاناته وطمئنة أسرته.
"كل الأسرى أبناء الشعب الفلسطيني"، عبارة رددها صاحب الـ(37)عامًا، والذي شارك في مسيرات العودة الكبرى، باعتبار أنها رسالة للعالم برمته لنصر القضية الفلسطينية، لذا لم يتخلى عن مساندة أبناء بلده طيلة حياته، خاصة في المعركة التي يخوضها الأسرى منذ أسبوع، والذين طالبوا أبناء الشعب الفلسطيني بضرورة الالتفاف حول قضيتهم العادلة ومعركتهم النضالية، وإسنادهم بمختلف السبل والأدوات الممكنة وفضح السياسات الإسرائيلية تجاههم والتي تخرق كل الشرائع الدولية ومبادئ حقوق الإنسان. يطلق تنهيدة طويلة "خايف أشوف خي ملفوف في كفن ومنقول على الشيالة"، لذا يرى أن الحل لخروج شقيقه في تبادل الأسرى وتبيض السجون "لما بشوف أولاده اشي مبكي أحلى فترة في عمر أي أب ان يكبر قدامه ولده وهو اتحرم منه.. العم بيعوضش عن حنان الاب مهما أشعل اصابعه العشرة لهم".