بطرس دانيال يكتب: اللسان تُرجمان الإنسان

نقرأ فى سفر الأمثال: "كَثرَةُ الكَلامِ لا تَخْلو مِن زَلّة ومَنْ ضَبَطَ شَفَتَيه فهُو عاقِل" (19:10). لا ينكر أحدٌ أهمية الكلام والحديث فى الوقت المناسب ومن أجل هدفٍ واضح، ولكن توجد أحاديث لا طائل منها، حتى إنها تضر قائلها وسامعيها، لذلك من الأيسر على المرءِ أن يمتنع كليّاً عن الكلام، من أن يجعل حدوداً للكلام، وكما يقول المَثل: "كلما تضاءلت المعرفة عند الرجل، ازداد وَلَعاً بالحديث عن هذا القليل الذى يعرفه". وهنا يحضرنى موقف من الأدب الروسى يُحكى فيه أن رجلاً ثرياً كان له ابن أحمق، فشاءت الظروف أن يرسله إلى مدرسة بأوروبا للدراسة، ولكنه عاد بعد بضع سنوات وهو أكثر حماقة وغباء، وللأسف الشديد كل ما تعلّمه هذا الابن هو الجدل العقيم وتعقيد الأمور البسيطة البديهية، ومِن ثَمَّ لم يستطع أحد من أقاربه ومعارفه أن يفهمه حتى أنهم ضاقوا وضجروا من ثرثرته الفارغة. وذات يوم بينما كان هذا الشاب يتنزّه بأحد الطرق متطلعاً إلى السماء، زلّت قدميه واختلّ توازنه وسقط فى بئرٍ عميقة، وتصادف أن رآه والده، لأنه كان على مقربةٍ منه، فرجع مسرعاً إلى منزله وأحضر حبلاً لإنقاذه، وهنا بدأ حوار بين الوالد وابنه، الأب: "لقد أحضرتُ حبلاً طويلاً سألقيه لك، وعليك أن تمسك به بكلتا يديك بشدّةٍ، ولا تتركه حتى أقوم بجذبك إلى أعلى". الابن: "أتقول حبلاً؟ أرجوك اشرح لى ماذا يعنى هذا الحبل". – "الحبل هو الشيء الذى تساعد به أى شخص يسقط فى بئرٍ عميقة ولا يستطيع الخروج منها بمفرده". الابن: "ولكن لماذا لا يتم توفير آلةً أو أداة ميكانيكية للقيام بذلك بدلاً من الحبل؟" الأب: "كل هذا يستغرق وقتاً طويلاً ولن تستطيع الانتظار حتى يتحقق ذلك". الابن: "تقول وقتاً؟! أرجوك اشرح لى ماذا تعنى كلمة الوقت". الأب: "الوقت هو الشيء الذى لن أهدره وأُضيّعه مع ابنٍ أحمق مثلك، ومن الممكن أن تبقى فى البئر حتى أعود إليك مرةً ثانية بعد تحقيق كل ما تريده". ثم تركه الأب وانصرف حزيناً ولم يتخيّل حال ابنه هذا. لذلك كثيراً ما كان الصمت أفضل من الكلام الذى لا جدوى منه؛ والإنسان الذى يستطيع أن يضبط لسانه، يربح احترام الآخرين وتقديرهم له، لأن فضيلة الصمت تمنح صاحبها فرصةً للتأمل والتروّى قبل أن يفتح فاه، حتى إن الإنسان الذى يتحلّى بالصمت، يضع حياته وأموره أمام الله بكلِّ ثقة. وكما يقول المَثَل المأثور: "قد تخفى الثياب الأنيقة عيوب الإنسان وحقيقته؛ ولكن الكلام الذى لا معنى له يكشفه بسهولة". مما لا شك فيه أننا نستطيع أن نعرف قيمة وأخلاق وثقافة الإنسان من الكلمات التى يتفوّه بها، لأنها تكشف ما بداخل صاحبها. كما أن البعض يخفون عدم القيام بواجبهم وراء الأحاديث والكلمات المعسولة، فمن الأفضل ألا نتكلم عن أنفسنا، بل ندع أعمالنا وتصرفاتنا تتحدّث عنّا، لأن الشخص بما يعمل، وليس بما ينطق به من كلامٍ وأحاديث عن نفسه، أو ما يضطر الغير أن يتحدث عنه من باب المجاملة والنفاق والكذب. نحن بحاجةٍ إلى فضيلة الصمت التى لا غنى عنها فى عصرنا القَلِق المشَوَّش حتى نستطيع أن نشعر بالطمأنينة مهما كانت الظروف، لأننا نضع ذاتنا وفكرنا فى يدى الله الذى يشجّعنا ويواسينا ويعزّينا ويعضدنا، فإنسان العصر فقد هذه الفضيلة العظيمة، حتى إنه يتعامل مع آلات وأدوات لا تكف عن الثرثرة والكذب والخداع، بينما الإنسان الناضج والحكيم يفضّل خلق أجواءً للصمت، حتى يستطيع أن يختلى بربّه وبذاته فيغذّى روحه ويدفئ قلبه وينعم بحبّه. كما أننا لا نتكلّم عن أعمالنا الخيرية فى كل مكانٍ وزمان، لأن الحكمة تَطَلّب منّا أن نصمت إذا قمنا بالخير، لأن الصمت أقوى وأصدق من الكلام، مما لا شك فيه أن الخير يتحدّث عن نفسه، لذلك الأنفع لنا هو أن نكتّم على أعمالنا الخيرية ولا نفتخر بها، ولا نتكلم فيها لأن الله هو الذى يكافئ ويعزّى. إذاً واجبنا الحقيقى أن نتفوّه بالكلمات الطيبة لمواساة الآخرين وشد أزرهم ومساندتهم، فمَن ينطق بكلماتٍ طيبة يساعد بها على تضميد الجراح وشفاء الأسقام، كما يجب أن نعوّد أنفسنا ألا نتكلم فى حضرة الآخرين، إلا إذا كان كلامنا أفضل من الصمت ويحمل رسالة للآخرين. ونختم بكلمات الفيلسوف أرسطو: "أحسن الكلام ما صدق فيه قائله، وانتفع به سامعه".