لم تتخيل رقية أحمد، يومًا أن مصيرها البائس منذ طفولتها مكتوب على أبنائها التسعة، الذين حرموا من والدهم، مثلما حرمت وهي في العاشرة من عمرها، فكانت تظن أن الحياة ستعوضها بزوجها لكن الزمن كان يخبئ لها المزيد، فمات دون أن يترك لها مصدر للإنفاق عليهم، وجثم الهمُّ على صدرها، فما كان أمامها سوى الخروج للعمل، لإعالة أسرتها، لتبدأ رحلة الشقاء من مدينة أسوان بعدما ضاق بها الحال في قريتها الصغيرة القابعة في شمال السودان، لاسيما في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد السوداني "تربيت يتيمة وربيت يتامى".
سنوات مرت والسيدة الخمسينية- التي جاءت من قريتها من أجل العلاج بعد تعرضها لانسداد في الشعب الهوائية، نتيجة استنشاق الغاز المُسيل، التي أطلقته قوات الأمن السودانية على المدنيين في إحدى التظاهرات-، على "فرشتها" بسوق أسوان، المُقابل لمحطة السكة الحديد بالقرب من ميناء السد العالي، والذي يعتبر من أقدم الأسواق في المدينة، تجلب الروائح والبخور والحناء والمنتجات السودانية من الخرطوم وتبيعها "بسافر كل فترة أجيب خامتي وأصنعها هنا وأشوف التمان ولاد المتغربين عني.. فالبنت هي الموجودة معي.. ده غير أن كل فترة الصبيان يجون لي لمدة أسبوع أو عشرة أيام ويردون على الخرطوم.. وده اللي اختارته القسمة".
"قرب عاين البضاعة حقي"، هكذا تتودد "رقية"، إلى الزبائن بين الحين والأخر، بينما تنهمك يدها في ترتيب منتجاتها المتراصة على صناديق مُصنعة من "الخُوص"، محاولة إخفاء دموعها وقلقها على أولادها وسط الاحتجاجات التي تشهدها بلادها شبه يومية ضد الرئيس السوداني عمر البشير، منذ 19 ديسمبر المنصرم "ولدي الكبير عنده 30 سنة بدون عمل حاليا هو وإخوانه.. وهسع بقالي سنين اشتغل وابعت لهم..لأن ما في وظائف عندنا.. للأسف عندنا تفرقة عنصرية في المناصب.. ورغم أن أولادي اللي تخرجوا حصلوا على امتيازات.. وكانوا يشتغلوا يوم والباقي مفيش بسبب ظروف البلد واللي أثرت على ولادي الصغار في التعليم وما عرفت اكمل تعليمهم.. ده غير إنه من الصعب أن يعيشوا معي بأسوان". لذا فتطبيق "الواتس آب"، هو الوسيلة لطمأنة الأم على أبنائها طيلة وجودها في بلاد الذهب.
برغم أن زوجها كان يعمل في الأعمال الحرة بالخرطوم، إلا أنها اعتادت منذ نعومة أظفارها على العمل، فكانت تمتهن مهنة والدتها "حنانة"، وكانت تعمل فقط في المناسبات ولكن بشكل متقطع "حاسة بظلم كتير من يومي والراحة ما تعرفلي طريق.. فاأمثالي إللي ماعندهم قروش اتبهدلوا.. وعاشوا حياة غير مستقرة.. هسة أنا ابيع على فرشتي وأحيانا أبيع شاي.. لأن البيع تأثر عكس الأول"، برغم من توافد العديد من السياح الأجانب والعرب في هذه الآونة "بس أهو بنعرف نتصرف وندبر أمورنا.. لأن الحكومة السودانية بتاعتنا للأسف ما تعرف حق المواطن.. ولا معنى اليتيم".
تطلق تنهيدة طويلة، وتؤكد بعدها أن قرار حظر التجمعات غير المرخصة، وأمر الرئيس السوداني بإنشاء محاكم طوارئ خاصة، للنظر في الانتهاكات التي تُرتكب في إطار حالة الطوارئ التي فرضها في السودان لمدة سنة، يجعلها تفكر كثيرًا في عدم العودة لوطنها، إلا أن يتغير الحال "السودانين شاربين دم المحبة ولو ما في ظلم ما نترك بلدنا.. وولادنا عليهم علينا حقوق ولازم نأكلهم ولو لأخر نفس بعمري راح اشتغل واصرف عليهم مثل ما عملت أمي معايا أنا وإخواني حتى جوزتنا جميعا وافتكرها الله".
يشتد البرد مع ساعات الليل، تلتف في شالها الطويل ذي الخطوط الهندسية السوداء، دون توقف عن بيع ما طلبته أحد الزبائن من الكريمات "اللي عنده 9 عيال شكلي صعب يرتاح ثانية.. أنا بنام أحلم بهم الحمل تقيل على أكتافي.. ونفسي أوفر كل طلابتهم اتحرموا من حنية أبوهم ومن وجودي جنبهم.. وخايفة أموت ويتفرقوا عن بعض.. علشان كده بشتغل ليل نهار وصحتي فداهم.. ومش عاوزة غير سترهم وأن أعوضهم عن غياب أبوهم"، هذا كل ما تتمناه السيدة السودانية.