أحمد عبد الوهاب يكتب: ما بين الأوس والخزرج واتحاد زايد
عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة أراد بناء أمة فتية، لكنه تفاجأ بصراعات داخلية بين الأوس والخزرج، يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم. و كقائد محنك ورجل دولة ليس له مثيل أدرك أن بناء الدولة لن يقوم ابدًا قبل الإصلاح الداخلي اجتماعيًا وسياسيًا، فكان شغله الشاغل صلوات ربي وسلامه عليه هو إعادة الوحدة قبل البناء، حتى لا يكون هناك يد تبني وأخرى تهدم. وبعد أن أتم الله أمر الاتحاد بين الأوس والخزرج جاءت النهضة الإسلامية في المدينة ومنها انتشرت الى آفاق بعيدة...
ما أنا بصدد الحديث عنه الآن قد يفهم للوهلة الأولى على انه حديث ديني أو سياسي، لكن دعونا ننظر اليه نظرة إجتماعية إصلاحية قبل كونها سياسية أو دينية. إنها تجربة إتحاد الإمارات.
خلف هذا الإتحاد يوجد قصة بطلها يعد بكل المقايس ظاهرة تستحق الدراسة، إنه "الشيخ زايد". صاحب فكرة اتحاد الإمارات ومؤسس الدولة بمفهومها الحديث واول رئيس لها. ولذا فالحديث عن إتحاد الإمارات لن يستقيم بدون الحديث عن الشيخ زايد ودوره أولًا.
لقد قام الرجل على أثر نهج النبي في المدينة بترسيخ فكرة الاتحاد والدعوة اليه والعمل على نجاحه ونشر معناه في كل مناحي الحياة. وظهر أثر هذا من خلال نهضة كبيرة للبلاد والعباد.
لم أقابل أحدًا من الشعب الإماراتي يختلف على حب الشيخ زايد رحمه الله. يحبونه بالفعل من قلوبهم، وليس تظاهرًا. تجدهم يتفاخرون بينهم أنه كان رئيسهم وصاحب فكرة وحدتهم.
لا يتفاخر المواطن الإماراتي بحب الرجل من أجل عيون الإعلام، ولا لمكاسب سياسية، ولا خوفًا من بطش قد يلحق بهم. بل يحبونه من القلب بغض النظر عن أيّةِ مكاسب محتملة، فأنا أتحدث هنا عن الطبقة المتوسطة، أتحدث عن المواطن الإماراتي البسيط سليم الفطرة، والذي ينعم مقارنة بغيره من الشعوب بحياة اقتصادية جيدة جدا.
وهم يعرفون أن الشيخ زايد كان صاحب مبادرة الاتحاد والتي قادت البلاد إلى نهضة اقتصادية واجتماعية وفكرية.
لم تكن ثروة البلاد النفطية هي السبب الأكبر لنقل مجتمع الإمارات من مجتمع بدوي بسيط الى مجتمع مدني حضاري حديث لكن بروح عربية أصيلة. نعم كان للثروة والمال دور في النهضة لكن حكمة الرجل في الإدارة وعدله كان له الدور الأكبر لإدارة هذا المال وتوظيفه في بناء الإنسان أولًا ومنها جاءت النهضة في الإمارات. وإذا كنت في شك مما اقول فانظر حولك كم من الدول النفطية كانت أكثر غِناء من بلد الشيخ زايد لكن لم تحظى شعوبها بالنهضة الموجودة في الإمارات حاليًا، لأنها لم تحظى بادارة حكيمة تجمِّع ولا تفرِّق توحد ولا تشتت مثل إدارة الرجل.
ثم انظر حرص الدولة من بعده على أن تتعرف الأجيال على تاريخ الرجل الناصع وعلى دوره في ترسيخ مفهوم الإتحاد. يتبادل الآباء تناول سيرته وغرس حبه للأبناء جيلا فجيلا.
لكن في المقابل هم لا يكتفون بالحديث عنه فقط لكنهم يأخذون نهجه أيضًا في تطوير بلدهم حتى لا يكون الأمر مجرد غناء بأمجاد الماضي.
في عرف التجارة يوجد ما يسمى بالعلامة التجارية trade mark، وكلما زادت قوة هذه العلامة صارت أكثر رواجًا في التسويق والمصدقية بين العملاء، فمثلا اذا ذكرت كلمة "مرسيدس" يتبادر إلى ذهنك فورا تلك السيارة الألمانية القوية ذات المواصفات القياسية. وهكذا الحال في المنطقة العربية اذا سمعت اسم "الشيخ زايد" قفز في ذهنك صورة الحاكم العربي الحكيم الذي يقف وبجواره باقي حكام وشيوخ الامارات وهم يقولون "نحن لسنا إمارات، نحن دولة الامارات".
كان حاكمًا حكيمًا يرجو الناس جميعا، المواطن والمقيم، خيره. تحكي لي إحدى الزميلات المقيمات ممن عاصرن الشيخ زايد فتقول "عاصرت وفاة الشيخ زايد وبكيت عليه بكاء البنت لأبيها، لم أبكيه فقط كرئيس، لكن كإنسان يُشعر قومه بالأمان ويعاملهم بالرحمة".
الرجل فطن للاتحاد أنه الأصل والأساس لنهضة أي أمة.
الرجل اتقى الله في شعبه وفي كل من يقطن أرضه وعمل من أجلهم فنال حبهم. فسبحان من سخر عباده لعباده ووضع حب عباده في قلوب عباده.
ما حدث من الوحدة بين الأوس والخزرج كان حدثًا تاريخيًا فارقًا، ظن الجميع وقتها استحالة حدوثه، لكنها كانت إرادة الله عز وجل بتأليف ذات البين بينهم " وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
وقد ظن البعض أن هذا كان عهد النبوة، حيث النبي بينهم، وأن الاتحاد مرتبط فقط بوجوده صلاوات ربي وسلامه عليه، وتناسوا أنه ترك لنا نهجه وسنته كدستور وهدى، وعليها مضى زايد وإخوته فكان اتحاد الإمارات إشارة وأمل بأن إعادة توحيد العرب ليس أمرًا عصيًا إذا صار الجميع على النهج النبوي.
في عام التسامح في الإمارات دعوة للجميع للاتحاد مقرونًا بالتسامح والتغافل عن الزلات في كل المجالات، في قطاعات العمل المختلفة، في المؤسسات والحكومات، بين الدول بعضها البعض. وأبدأ بنفسي في ما قصرت فيه من حق إخوتي وأصدقائي وزملائي حتى ولو كان بدون قصد. أبدا بنفسي فاعفو عن من ظلمني وليكن قدوتنا صلوات ربي وسلامه عليه "اذهبوا فأنتم الطلقاء" دعوة تسامح قادت مكة كلها للإسلام. الاتحاد ليس مجرد كلمة لكنها فعل مرتبط بالتسامح والعدل.
"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا".
نسأل الله الاتحاد لكل الشعوب العربية!