سليم صفي الدين يكتب: هول الإنتظار.. قصة قصيرة..

ركن القراء

سليم صفي الدين
سليم صفي الدين


"كانت بيننا ليلة.. نثرنا الحب فوق ربوعها العذراء فانتفضت.. وصار الكون بستانا.. وفوق تلالها الخضراء.. كم سكرت حنايانا.. فلم نعرف لنا اسما.. ولا وطنا وعنوانا" (1) ما زلت أعيش على عبق تلك الليلة، التي تجسدت الآلهة لي فيها، فكنت نبيا رسولا، أتذكر التفاصيل؛ فأعيش الدقائق واللحظات كأنها ما زالت معي، داخلي هي وأنا داخلها، أغوص في أعماقها داخلا من باب الجنة، وتغوص في شرايني داخلةً مع كل نفس.. أشم رائحتها، حتى اليوم لم أغيّر في الحجرةِ شيئا، كل شيء كما تركته ليلتها، وكأنه قدَر ما تبعثر أن يتبعثر، وما سكن أن يشاهد في سكون.

من يومها كما قال الحلاج "لم يزدني الـِورْد إلا عطشـا، لي حبيبٌ حبّه وسط الحشـا.. إن يشا يمشي على خدّي مشا"، تطهرت من عرق جسدها عندما فاض علىَّ وهي تعتليني، فشعرت أني أتعمد في دينها كالمسيح وقت الرسالة، التهمت شفتيها وأنا في صراع، هل أغمض عينيّ لأهيمَ في ملكوت لا متناه، أم أفتحهما لأتوه في الملكوت ذاته، دققت وتدي فتأوهَت، فباحت روحي بكل ما بها من تعبي.. من خطاياي، لتتم رسالتي بين العاشقين رسولا.

حجرتى لا جديد فيها، من ليلتها صارت عندي قصرا، عندما أود السفر عبر الزمن أدخلها، فتدخلني روحها، فأسافر حيث تلتقي أرواح العاشقين.. لون الجدران أبيض، والسرير كذلك، فأنا أعشق صفاء الألوان.. دولاب يسار الباب ذو لونٍ بنى، والسرير أمامه تماما، وأبجورتان يمين السرير ويساره، ومرآة على يمين الباب. الحجرة ضيقة نظرا لحجم الدولاب والسرير والتسريحة، لكن حضنها في تلك الليلة كان أوسع من البراح.. لبست شورت أبيض وتيشرت أزرق اللون، ووضعت الفودكا والثلج يمين السرير، شربت حتى سكرت، فعقلي لم يستوعب أنني حقا سأنام ولو للحظة في حضن محبوبتي..

دق الباب، انتفضت جوارحي، فتحت، عندما رأيتها جذبتها بشده؛ ارتطمت في صدري. أغلقت الباب، وسكنت البراح وأنا أتأوه، شَعرتْ بما فِىّ من سُكر، فضمتني بحُنُوٍّ إلى صدرها وهي تقول "ششششششش.. إهدا.. أنا معاك".. كنت أقرأ عن الحب روايات وقصصا، لم أصدق يوما ما قيل في العشق حتى عرفتها؛ آمنتُ و"كفرتُ بدين الله والكفر واجب علىَّ، من الظلام ينبثق النور، ومن الكفر نعرف الإيمان" (2)، هدأتُ تماما، أبعدتني عنها برفق وقالت: "أغير هدومي ممكن؟!"، لم أتكلم، أشرت برأسي في حالة من الاستسلام مستجيبا. ذهبتْ إلى الحمام، فجلستُ أمام الباب على الأرض، الفودكا في يميني، والعشق كله في يساري. رأتني بمجرد أن خرجت، فابتسمت:
-  "إنت قاعد ليه كده؟"
-  "مستنيكي!"
-  "إستنى في الأوضة يا حبيبى.. تعالى"
قمت معها وأنا ثمل قليلا، الفودكا بطل مفعولها أمام حسن دلالها، كيف أسكر فأتوه عنها؟! شقراء، مؤخرتها مستديرة، منتصبة، نهداها مرمر، يختصر في حضرتهِ ما لا يخطر على قلب بشر، حلماتها هرمان شامخان، ورديتان، جلدها ناعم.. أنعم من الحرير، شفتاها غير معلوم لونهما، ملفوفتان من خدود الورد، مغموزان خداها، شعرها غجري مجنون، يسافر كشعر حبيبة "حليم" في كل الدنيا. دخلنا الحجرة، أمسكت مني كأس الفودكا وارتشفت منها، ثم قبلتني، فسارت الفودكا تخرج منها إليّ ومِنّي إليها، الآن سكرت، الآن دقت موسيقى ڤيڤالدي "الفصول الأربعة" في الحجرة، لا أعرف هل كانت تدور فعلا، أم أن الكون عزفها لأجلي.. "ما زلتُ أطفو في بحار الهوى.. يـرفـعـنى المَـوْجُ وأنحطُّ.. فتارةً يـرفعـني مَـوْجُـهـا.. وتـارة أهــوى وأنـغــطّ" (3) لا أعرف هل كنت يوما ما شاعرا، أم أنه وحي عشقها، وجدتني أقول أنتِ كعبتي وقبلتي ويقيني.. عشقٌ، غاص بشراييني.. وأصبحت أنا في ملكوت الهوى، عصفورًا أشدو في كل وكنة صبح..تسابيح قلبي وترانيمي".. ابتسمت، فأنارت الدنيا بفعل صفَّي اللؤلؤ المصفوفين بدقة متناهية. اقتربت مني أكثر، كنا منتصبين ملتصقين ببعضنا، ووتدي يخترق كل الحواجز، مجنون يبحث عن بابه. رائحة جسدها لا مثيل لها، إنما يشببها كل العنبر والعود والكاسيليا، أنفاسها كانت ساخنة للغاية، ملت بكُلّي على شفتيها ألتهمهما.. فمدت يدها تتحسسني من تحتي.. آآآآه، لا أعرف هل أفيق أم أسكر، أعي أم أتوه.. انتفض وتدي مخترقا كل شيء، أنزلت عني الشورت، وركعت أمامه، فسجدت روحى، أخذت تأكل تحتي وأنا أولد.. أخلق.. أتكون بفعل لمساتها غير المحسوبة سرعتها، ولا معلوم مدى تأثيرها.. قامت فردت روحي إليّ.. أو فارقتني، لا أدري.. انحنيت بكاملي عليها، فسقطتْ مستسلمة على السرير، خلعنا بسرعة الضوء ما تبقي من ملابسنا، أخلعتني وأخلعتها.. كلانا يسابق الزمن في الكشف عن أسرار الآخر.. فتحت طاقة النور، اعتدلت فوقها.. صدت يدها في صدري وقالت مترجيه "بالراحة"، ابتسمت.. أنا الذي خلص الرجاء من رجائها، والآن ترتجيني، ما زلت أنا الراجي يا سيدتي.. اقتربت نحو "سدرة المنتهى" فانفتح بابها، يستقبل نصفه الآخر.. سكنت أخيرا، آآآه..، لا أعرف من أين يخرج التأوه، مني أم منها، ولا أدري، هل أعتليها فعلا، أم تعتليني، ظل جسدي يترنح فوقها كفارس يجري به حصانه، رغم فروسته يخشى تهور الفرس.. ورغم ثقته يخشى أن يسقط فيهرب المهر..
تقلبنا.. تعانقنا.. أنجبنا ليلتها السعادة.. والحب.. وقصائد عشق مجسدة.. الحب الذي يخرج في كلمات عشق منتحر، العشق فعل، والحب أن تُقَبِل حبيبتك، والهُيام لحظة الفيض بالأسرار.. آآآه "أغرقتنى بمائها" فتعمدت بعمادي، وتطهرت على طهري، وصليت دون سجود، توسلت لغير الإله، وإنه لحق، آمنت بغير الدين، وإنه لصدق، تبدل جلدي، وأنه لاكتمال عن باقي البشر.
هل انقلبت الدنيا، أم انعدلت، وأي جنة يؤمنون بها بعد نويى وأنا أحضنها من ظهرها وأستكين وتسكننى، أوبعد تلك الجنة جنان!
قمت من نومي.. أيقظتها، قالت وهي لا تتحرك:
-  "مابتشبعش؟"
-  "الشبع من الجنة كفر!"
-  "كفاية فلسفة"
-  "إزاي ماتفلسفش وانتي منهج استقراء؟"
-  "ارحمني"
-  "لما ترحمي شوقي"
-  "طماع"
-  "الطمع في حضرتك فرض"
أتذكر كل كلمة، فقط أشرب الفودكا، وأسمع صوتها، أرى أمامي كل شيء كان، آمنت بعد كفر، وكفرت بعد إيمان، آمنت بكل ما كفر به الناس، وكفرت بما آمنوا به، من رأى ما رأيت سيعلم أن الأنبياء حق، وإن لم يستدل تاريخا عليهم.

تركتنى حبيبتى.. أخرجت من الجنة كآدم، ومن مكة كمحمد، ليت كان لي نصيب من خروج نصر أبوزيد، حيث خرج مع حبيبته، ولكني هبطت منها، وما زالت أنتظر الهدى، هل تعودين يا حبيبتى؟ كل شيء كما تركتِه إلا أنا.. مهلهل الروح، مسلوب الإرادة، أسير اللاشىء! الوداع من سنن الكون، آمنت به وكفرت بمن سنه!

(1) قصيدة شعر كانت بيننا ليلة للشاعر الكبير فاروق جويدة.
(2) مقتطعة من كلمات الحلاج
(3) من أدبيات الحلاج