من التاريخ.. الرحلة الحجازية
في سنة 1327 حج إلى بيت الله الحرام عزيز مصر عباس حلمي الثاني، وقد أخذ في صحبته طائفة من العلماء والأدباء والكتاب، منهم صديقنا محمد لبيب بك البتنوني الشهير صاحب (الرحلات) المشهورة، فكتب في ذلك (الرحلة الحجازية) وأودعها من الفوائد، ووصف الآثار والمشاهد، وتاريخ الأماكن والمعاهد، ونظام القوافل والمسالك، وأحكام وحكم المناسك، ما لا تجده مجموعًا في كتاب، ورتب ذلك في الرحلة أجمل ترتيب، وفصل الكلام فيه أحسن تفصيل.
وجعل فيها من رسوم المعاهد المقدسة ما زادها حسنًا وجمالاً، وزاد ما فيها من الوصف والبيان إيضاحًا، ففيها بعد رسم الأمير الذي وضع قبل الديباجة رسم ميناء جدة، فرسم صلاة الجمعة في الحرم المكي ترى الألوف فيه مستديرين حول الكعبة المشرفة، ثم رسم مقبرة المعلى، وباب الصفا من أبواب الحرم، ورسم آخر للكعبة والحرم في وقت الصلاة وغير وقت الصلاة، ورسم قافلة الحجاج بين منى وعرفة، والحجاج بخيامهم في عرفة، ورسم جبل عرفات ومنظر رمي الجمار، ومسجد الخيف بمنى.
ووصف موكب الخديوي ذاهبًا لزيارة الشريف، ورسمه بين حاشيته من رجال الملكية والعسكرية، ومنظر المدينة المنورة، وباب السلام بالحرم النبوي من داخل الروضة، والقبة النبوية وباب الرحمة فيه، وغير ذلك من الرسوم الشمسية، وفيها رسوم غير شمسية وعدة خرائط للبلاد المقدسة وغيرها؛ كخريطة العالم الإسلامي، وخريطة مكة، والحرم المكي، وعرفات ومنى والطرق إلى الحرمين، ومساكن المدينة، ومنظر المدينة المنورة نفسها.
ومن مباحث الكتاب المهمة بحث كسوة الكعبة، والمحمل، ..والحج عند الأمم المختلفة، ومنع الأجانب من دخول الحرمين، ومشاعر الحج قبل الإسلام، وأصل لباس الإحرام، وماضي المدينة وحاضرها، والكلام على المحاجر الصحية، وسكة الحديد الحجازية، والآثار القديمة بالشام، ومدينة بطره. وجملة القول أن هذه الرحلة جديرة بأن تكون ذكرى وتاريخاً لحج أمير مدني كعزيز مصر، التي هي في مقدمة البلاد الإسلامية مدنية وارتقاء، وقد طبعت طبعًا نظيفًا يليق بها.
ويجدر بنا ههنا أن نقول كلمة في حج الأمير، فقد سبق لنا أن أنكرنا في المنار على ملوك المسلمين وأمرائهم ترك فريضة الحج إلى بيت الله الحرام. والظاهر من حالهم أنهم قد تركوا هذا الركن من أركان الإسلام عمدًا، وأنهم وطنوا أنفسهم على تركه لا أنهم ينوون أداءه، ويتساهلون فيه بالتراخي حتى يدركهم الموت، وإلا لاتفق لبعضهم أداؤه. وأكثرهم يعرفون أن ترك الحج عمدًا فسق واستحلاله كفر، وإن للسياسة السوأى تأثيرًا في ذلك.
وقد كان من مزايا أمير مصر عباس حلمي الثاني تشوقه إلى الحج، وكان استأذن عبد الحميد في أيام سلطنته بذلك فلم يأذن له، ولم يكن من المستطاع أن يحج بدون إذنه، فلما زالت دولة عبد الحميد، وصارت الدولة دستورية لا يمكنها منعه من الحج، بادر إلى أداء هذه الفريضة.