"كان نفسي أموت شهيد".. والدة النقيب مصطفى يسري: "الواحد متنبهش إنه كان عايش معاه ملاك" (صور)
كعادتها في كل عيد أم تبدو شاردة الذهن تظهر على وجهها ابتسامة صغيرة تدل على خيبة آمل كبيرة وفقدان لكل شي غالٍ، لتبدأ هذا اليوم بالتوقف والدموع تملأ عينيها متذكرة ولادة ابنها الشهيد إلى آخر لحظة في عمره، تتحدث عنه ولا تصدق لحظة أنه تركها وتوفى، مؤكدة أنه كان ملاكا يعيش بينهم ولم يلاحظوا ذلك إلا بعد رحيله، تفتخر به تارة وتارة تبكي عليه.
ذهبت "الفجر" إلى بيت
الشهيد النقيب مصطفى يسري، لنلتقي مع والدته السيدة وفاء السيد ووالده اللذان
دموعهم لم تجف عليه إلى الآن بالرغم من مرور 3 سنوات منذ
استشهاده، وذلك لأن الذكريات مازالت موجودة في كل شئ حتى كتاباته بخط يديه في آخر لحظات
حياته، مازال الأب والأم ينظران إلى هذه أوراقه، وكأنها هي الشئ الباقي من ابنهم
الشهيد.
وإلى نص الحوار:
هل تحديثنا عن طفولته؟
"ملك مربي من عند ربي"،
هكذا بدأت الأم كلامها عن ابنها، مؤكدة أنه كان ملتزما دراسيا وعلميا وأخلاقيا
ودينيا، وأنه كان منذ الصغر يحب الشهادة، وأنها لم تقابل طفلا في مثل سنه كان يتمنى
أن يموت شهيد.
"نفسي لما أكبر أموت شهيد، محدش
قالها في طفولته قبل ذلك إلا ابني"، وأنه نشأ في أسرة عسكرية فوالده وعمه وجده
لواءات جيش، فكان دائما يقول "أنا لما أكبر وأبقى ضابط أحارب وأموت شهيد".
استكمل مراحله الدراسية بتفوق ونجح في
الثانوية العامة بنسبة 98 %، وتقدم لكلية الهندسة والشرطة وعندما جاءته الشرطة صمم
على دخولها من حبه الشديد لها، ومن حبه للشهادة كان دائما يكرر جملة: "يا مصطفى
أنت ممكن تنول الشهادة حتى وأنت في سريرك"، ودخل كلية الشرطة وكان ملتزما
وتفوق فيها، لأنه كان يريد عند التخرج الذهاب إلى الأمن المركزي.
وذلك لأنه كان يرييد أن ينضم للعمليات
الخاصة، وبالفعل كل سنة كان يحصل على تقدير ودخل الأمن المركزي، وبعد التخرج "المتفوقين
بياخدهوهم عمليات"، وكان دائما يقول لي: "ادعيلى عشان عاوز أدخل عمليات"،
والحمدلله جاب التقدير ودخل عمليات.
وماذا عن حياته المهنية وكيف بدأها؟
"أول ما اشتغل في قطاع سلامة عبد
الوؤف في الدويقة، عمل بالعمليات الخاصة اللي كان بيتمناها بشدة، وكان الشهيد مصطفى
يسري دفعه 2010، وكان دفعته خرجت على ثورة يناير من أول 2011 ونزل وقتها في جمعة
الغضب وبعدها شالوا أحداث يناير وتبعاتها، كان فخور دائما ببدلته العسكرية، وعندما
جاءت أيام الهجوم على الأقسام والشرطة رفض إنه يتخلى عن بدلته"، مضيفة: "مقلعش
بدلته الميري وكان فخور بيها، ووقت يوم جمعة الغضب في التحرير اتصاب بطوبة في راسه
ورغم ذلك كمل وقضى هذا اليوم بره القطاع".
وكان قطاعهم "سلامة عبد الروؤف"
قطاع كبير وكان القطاع مستهدف بسبب السلاح، وظل هو وزملائه في "نبطشيات"
حول الأسوار "عشان محدش يدخل ويحموا القطاع واستمر كذا يوم لحد ما الأكل
معاهم خلص ومكنوش عارفين يخرجوا يجيبوا أكل، ومكنش فيه حد بيخرج ولا يدخل من
القطاع، كانت دائما تحدث مشاكل ولكن كان هو من النوع الكتوم الذي لا يحكي عن
مشاكله".
وفي الانتخابات وهذه الأحداث، كان يذهب للعمل في سيناء والعريش و"مكنش
بيقولنا حاجة، ومكنش بيقولنا على أي مشكل بيواجهها، بعد ذلك عرفنا كل هذه الأمور
من زملائه وهما بيحكوا عن مشاكلهم التي واجهوها، كان دايما يقولي الحمدلله كويسين،
كان دائما يخبي علينا في الموضوع ده وميحكيش"، مضيفة أنها كانت دائما تتصل به
كثيرا ويقول لها: "يا ماما انتي بتاخدي الرقم القياسي في عدد الرنات "وكنت
أقوله طب أقفل عليا"، فيقول لي: "عشان تعرفي إن أنا لسه عايش ".
وما هي اللحظات الصعبة في حياته
المهنية؟
تأخد الأم تنهيدة طويلة، وتقول في صوت
محشرج مليئا بالحزن: "بدأت بعد كدة أحداث رابعة يوم 14 أغسطس 2013، وكان
قبلها شهر رمضان، وكان هو دائما قريب من رابعة، وجاءت بعد ذلك أحداث الحرس الجمهوري،
وكان الشهيد موجود أيضا، ويوم رابعة نزل الصبح 14/8 الساعة 6 صباحا وبدأ ينزل من
العربيات هو وزملائه أول رصاصة أخذها زميله محمد جودة، وكان دفعته وفي القطاع معاه
ويليه الشهيد محمد سمير ويليه الشهيد رامي حرب".
وقالت الأم إنها لم تر ابنها إلا في
اليوم التالي بعد صلاه المغرب، مؤكدة أن "الرصاص حوليهم كان زي العصافير، ومع
إنه كان عارف ميعاد فض الاعتصام لكنه لم يخبرنا، وعرفنا تاني يوم لما فتحنا التلفزيون، ولكن الكلمة اللي قالها لينا (اللي هينزل
مدينة نصر يا ريت يأجل نزوله) ورجع القطاع يوم 14 ويوم 15 كان المفروض خطوبته
وتفاجأت بمكالمة منه العصر وقال لي إنه جاي".
ذكرى مؤلمة.. لكن حديثنا عنها لتستقر في أذهاننا لحظات استشهاده؟
"وكنت بعمله الأكل اللي بيحبه،
وطلب مني أن أكلم أهل خطيبته عشان نروح نقرا فاتحة، وكان في منتهى السعادة في هذا
اليوم، ورجع في هذا اليوم وكان أول يوم من بداية حظر التجوال، وكان مصمم إنه يرجع قبل ميعاد الحظر، ورغم إنه كان ضابطا ولكن كان ملتزما
بالقواعد"، وقال لي: "بحب اللي يمشى على الناس يمشي عليا"، ويوم
الجمعة 16/8 استيقظ صباحا وحضرت له الفطور الذي بيحبه.
وهي تستحضر هذا اليوم وكأنه أمس، تقول:
"كنت مقبوضة في اليوم ده وصحيت إخواته عشان يفطروا معاه وقلت لهم (قوموا
افطروا مع مصطفى يا عالم هتفتطروا معاه تاني امتى) ولم أدر كيف قولت هذه الجملة، والده
أيضا كان متوترا في هذ اليوم، ولكن الشهيد في هذا اليوم لم تكن هذه عادته حيث لم
يضحك ويتكلم وظل ساكتا، ووالده كان أول مرة ينزل يوصله لعربيته، وقمت بالاطمئنان
عليه قبل صلاة الجمعة".
وقبل الصلاة نزل على حسابه الشخصي
صورة زميله الشهيد محمد جودة وكتب: "مستني دوري"، وكانت الساعه 11 صباحا،
وبعد الصلاة لم يرد على اتصالاتنا، ورد زميله: "مصطفى عند القائد بياخد
تعليمات"، ولكنه لم يتصل بعد ذلك وذهب لتأمين قسم حلوان وعلى طريق الأوستراد
فكان يوجد دعم ذاهب إليهم وعندما تأخر الدعم قال "أنا هروح وذهب قبل زملائه
ووقتها كان في قناصة عند المعصرة وكان موجودين في عمارة تحت الإنشاء، وأول
ما وصل بسيارته بدأوا بضرب النار عليه، أخد أول رصاصة في الفك ثم في رجله وزملائه أول
ما عرفوا بإصابته عرفوا إن فيه كمين واتعاملوا معاه وزمايله بعد ذلك قالوا لي:
"مصطفى فدا القطاع كله".
"وأخذوه على المستشفى بعد ذلك، وقمت
بالاتصال على زميله حيث قال لي (مصطفى اتصاب إصابة صغيرة وإحنا في المستشفى)
وذهبنا مسرعين أنا ووالده وجارنا هو اللي وصلنا، ومعرفتش أشوفه في اليوم ده، والدكتور
رفض قال تاني يوم، ووالده فقط اللي شافه، وبعد ذلك شوفته وهو داخل غرفة العمليات
وكان متواصل معانا 6 أيام عن طريق "الكتابه في نوتة" وبعد ذلك أنبوبة
الأكسجين اتسددت وانقطع الأكسجين عن المخ
20 دقيقة وتسبب تلف في المخ، ودخل في
غيبوبة 3 سنوات و3 أيام، وكان دائما يقول لي (هرجع القطاع تاني كان بيحب القطاع
جدا، كان آخر حاجة كتبها: (كان نفسي أموت شهيد).
هل من الممكن أن حدثينا عن أعماله الإنسانية
والخيرية؟
"كان كل مكان بيروح فيه كان
بيجيب مصاحف ومصليات ومكنتش أعرف الموضوع ده طبعا، وكان حسن التعامل مع الناس،
وعلى المستوى الإنساني والعائلي فالشهيد كان بار جدا ومكنش يحمل أذى أو طغينة أو
كره تجاه أحد"، وتضيف والدة الشهيد: "وكان دائما مبتسم في وجه أي أحد".
وقالت الأم إن الشهيد عمل أشياء على
المستوى الإنساني "مفيش أي شاب في العائلة قام بها، محدش عمل اللي مصطفى عمله"،
مضيفة أنه ذهب للعمرة قبل الحادثة بشهرين و"اللي كانوا متواجدين معاه في
العمرة عندما نزلوا وشافوني في المطار قالولي: "مصطفى كان خدام العمرة ومكنش
بيسيب حد إلا لما بيخدمه".
وحرص الشهيد دائما على صلة الرحم في
زيارة أي مريض أو محتاج و"معرفتش كل ده إلا بعدين"، وقالت: "أول ما
تخرج، أول راتب شهري له وزعه على نساء العائلة، ورغم أنه كان يوجد شباب أكبر من سنه
في العائلة إلا لم يفعل أحد هذا الموقف رغم أنهم اتخرجوا واشتغلوا وسافروا بره،
ولكن كان يفعل هذا لأن ده كان من جواه، وذات يوم كان يوجد حريق في شقة سكنية في
عقار أمامنا، ووقتها محدش اتحرك من المنطقة".
وأكدت أنه "وقتها أسرع الشهيد ،
وأخذ لهم إسدالات وشباشب وكراسي وعصير، الواحد متنبهش أنه كان معاه ملاك.
حديثنا عن علاقته بك يوم في عيد الأم؟
"معندناش حاجة اسمها عيد أم اسمه
عيد الأسرة، فكان يشمل الأب والأم"، وتتذكر الأم موقف ابنها عندما كان في أولى
ابتدائي وجاء من المدرسة وقال لها: "أنا هروح اشتري حاجة من المكتبة، وجري مسافة
عشان يجبلي بوكيه ورد".
وأضافت الأم أنه في آخر سنه للشهيد في
2013 عاد من القطاع بعد العصر و"شافني وأنا زعلانه عشان محدش جابلي هدية في
عيد الأم، فأسرع ببدلته ونزل يشتري ليا هدية ورجع، ماكنش بيفوته حاجة أبدا كان
ونعم الابن البار، وزمايله بعد ذلك قالولي (مصطفى مش من أهل الأرض، مصطفى خساره
فينا"، وصمتت الأم بعد تنهيدة طويلة وقالت "ربنا متعنا بيه 24 سنة".
وتستكمل الأم حديثها عن يوم عيد ميلاد
والد الشهيد، حيث إن والده كان عيد ميلاده في شهر 9 وأن الشهيد اتصاب في 16 /8
وصمم أن يأتي والده معه ليشتري ملابس له، وقام بعد ذلك بدفع ثمن هذه الملابس، وقال
له: "دي هدية عيد ميلادك".
وتفاجأ والده بالهدية خاصة وأن عيد
ميلاده كان بعد شهر، وقال مصطفى له: "يا ترى مين يعيش"، كان رغم تعبه وإرهاقه
كان يفكر ويتفنن بكيفية إسعادنا: "مصطفى مكنش عادي، إحنا مكناش واخدين بالنا إننا
عايشين مع ملاك".