أم الشهيد ضياء فتحي: "لو عاد بي الزمن لن أتردد في دخوله كلية الشرطة.. ووحشتني كلمة ماما" (حوار)
أم الشهيد ضياء فتحي: الدولة أثلجت صدري بتكريماتها وعوضتني عن فراقه
الرئيس السيسي احتضن نجلة ابني وبكى أثناء الاحتفال بأمهات الشهداء
افتقد كلمة ماما في عيد الأم.. وصورته لم تفارق خيالي منذ استشهاده
ذكرى تمزج بين السعادة والحزن، فبينما تحتفل كل أم مع أبنائها في 21 مارس، يختلف الوضع تماما مع أمهات الشهداء، حيث يمر هذا اليوم على بعض الأمهات في تذكر رجال رحلوا وخلّفوا إرثًا من البطولة التي تدعو إلى الفخر، والبعض الآخر لم تجف دموعهن وألمهن من فراقهن، وفي النهاية يحتسبوهن شهداء عند ربهم يرزقون، بقلوب عامرة بالإيمان والرضا بقضاء الله.
وبالرغم من مرور السنوات، إلا أن الحزن يظل ساكنا داخل قلوب أمهات الشهداء، وما يعوضهن، هو الإيمان بقضاء الله وقدره، والمنزلة العظيمة التي وعد الله بها الشهداء، فالتضحية في سبيل الوطن هي تضحية لا تضاهى بثمن، فشتان بين من يدافع عن راية ومقدرات وطنه، وبين من يسخر حياته وأمواله لتخريبه، هم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واصطفاهم الله عز وجل للدفاع عن الآخرين، ليقدموا أغلى ما يملكون وهو حياتهم، وبينما تنتظر كل أم رسالة شكر وامتنان من أبنائها في تلك الذكرى، يبقى الوضع مختلفا مع أمهات الشهداء، حيث تمر تلك الذكرى بصعوبة بالغة من ألم الفراق والوحدة، واسترجاع الذكريات المشتركة مع إبنها الشهيد قبل أن يغيب عن عالمنا.
جلست السيدة نجاة الجافي، والدة الشهيد البطل المقدم ضياء فتحي، الذي استشهد أثناء تفكيكه قنبلة أمام قسم الطالبية بالهرم، وأنقذ ملايين الأرواح، مبتسمة وعيونها تمتلىء بالدموع، تسترجع ذكرياتها، وبداخلها أحاسيس متناقضة، بالاحتفال باليوم الذي تنتظره الإمهات كل عام في عيدهم، والشعور الآخر وهو فقد فلذة كبدها، الذي نشأ وترعرع بين أحضانها، والتقتها الفجر للتعرف أكثر على ذكرياتها مع إبنها الشهيد البطل، وإلى نص الحوار:
بداية.. حدثينا عن الشهيد البطل ضياء فتحي؟
بدأت بتنهيدة طويلة تلتها ابتسامة عريضة وقالت كان إبني وصديقي وأخي، وكان متحملا للمسئولية منذ نعومة أظافره، وأتذكر واقعة له، حينما نزل إلى الشارع لتنظيم المرور وتعرض لخبطة مؤثرة من ''موتوسيكل'' أدى إلى إصابته بجرح في رأسه وكان عمره وقتها لم يتجاوز ال 6 سنوات، وكان محبا لكلية الشرطة مثل أبيه الذي كان يعمل ضابط شرطة، وبسبب تعلقه الشديد كنت أشتري له زى الشرطة باستمرار، وكان يهوى تربية الطيور، وكان باراً بي وبوالده، وأول حلم تحقق وجعله سعيداً للغاية يوم قبوله بكلية الشرطة، ورأيت في عينيه نظرة سعادة ورضا لم أراها بحياتي، وكان إبن عمي وفرحتي الأولى.
ما هى الذكريات المشتركة بينكما ولا تنسيها أبداً؟
تتابع الأم حديثها قائلة عندما تخرج من كلية الشرطة وبدأ في العمل عام 2005، كان حريصاً على ألا يشعرني بالقلق، وخصوصاً أنه بدأ خدمته بسيناء، وهي كما يعلم كل المصريين منطقة ذات طبيعة خاصة جداً، ومن يخدم هناك يكون باستمرار على أهبة الاستعداد، كما أن الضباط دائماً ما يكلفوا بعمليات خاصة، وبالرغم من أن زوجي وإبني ضابطان بالشرطة إلا أن قلبي دائما كان في حالة من القلق المستمر والخوف، خصوصاً في الفترة التالية لثورة يناير وما صاحبها من حرب ضروس على الإرهاب والتفجيرات المتتالية من الجماعات الإرهابية، وأول إصابة لإبني الشهيد كانت عام 2008 عندما أصيب بطلق ناري في صدره أثناء ملاحقة أحد الخارجين عن القانون، وأوصى بعدم إبلاغي على الإطلاق بالرغم من أن حالته كانت حرجة للغاية، ومن الصدف والمواقف التي لا تنسى له أنه بعد هذا الحادث ب 3 أيام اتصل بي وهنأني بعيد ميلادي، وأرسل لي هدية وهو في غرفته بالمستشفى.
لماذا انتقل الشهيد البطل من المباحث للحماية المدنية؟ وما هو رد فعلك على اختياره لتفكيك المفرقعات؟
شردت قليلاً واستكملت حديثها قائلة الشهيد ضياء انتقل للحماية المدنية بكامل إرادته، وعن اقتناع تام، لأنه كان حريصا على العمل بيديه، حيث كان دائم الاطلاع والبحث، ولم أبدي أى انزعاج في البداية ولم أتدخل أبداً في اختياراته، حيث أنني أؤمن بأنها حرية شخصية بالرغم من قلقي الشديد بعد أحداث التفجيرات التي طالت الكنائس والكمائن، وانفجار العبوات الناسفة التي راح ضحيتها المئات من قوات الجيش والشرطة والأبرياء، وعندما شعر بأنني انتابني القلق قال لي '' متخافيش ياماما، اللي ربنا كتبهولي لازم أشوفه، هو أنا أطول أموت شهيد، يارب نولهاني'' ، وتحققت نبوءته، واستجاب الله لدعاءه.
ما هو أكثر شيء يذكرك به؟ وما هو الشيء الذي تفتقديه في غيابه؟
بصوت تتلون نبراته بالحزن أجابت: أتذكره في كل لحظة وصورته وصوته لا يفارقان خيالي، ولم يذهب لعمله في يوم من الأيام إلا بعدما يقبل رأسي ويودعني حيث إنه يسكن في نفس العقار في الطابق التالي لشقتي، وما أفتقده حاليا كلمة ''ماما'' حيث لا توجد كلمة في العالم تساوي تلك الكلمة من فلذة كبدي، الذي تربي وترعرع بين أحضاني، وخصوصاً أننا كنا أصدقاء ولم تكن العلاقة بيننا علاقة إبن وأمه فقط.
من من أولاده أقرب إليه في الشكل والطباع؟
تصمت قليلاً وتؤكد أن إبنها الشهيد ليس لديه سوى بنت وحيدة، واستشهد عندما كان لديها 4 شهور، وهى الآن تبلغ من العمر 4 سنوات، وتتشابه مع أبيها في أشياء كثيرة، عندما كان في عمرها.
كيف استقبلتي نبأ استشهاد نجلك؟
تعتدل قليلاً من على أريكتها وتقول: كنت أنتظر دائماً نبأ استشهاد ابني وقلبي لا يتوقف عن الحفقان إلا بعد عودته من عمله، لأن طبيعة عمله في المفرقعات كانت حساسة للغاية، حيث أن الجماعات الإرهابية تفننت بشكل كبير في زرع تلك العبوات في أماكن لا تخطر على بال أحد، وقبل استشهادة بيوم قالي لي ''أنا بودع الحمام يا ماما.. بكره عندي شغل وربنا يستر''.
واتصل بي نجل أختي وأبلغني أن ضياء أصيب في إحدى العمليات، ووقتها جاوبته سريعا: "ضياء استشهد متصابش وأنت مخبي عليا'' ، وهرولت مسرعة ولم أجد سوى أشلاء نجلي المتطايرة في كل مكان، وأصبت وقتها بذهول وقلت بصوت ممزوج بالدموع : "إنا لله وإنا إليه راجعون.. لله ما أعطى ولله ما أخذ.. استودعت ضياء أبني عندك يارب من الشهداء".
ما هي آخر الكلمات التي ودعتيه بها قبل دفنه مباشرة؟
لم تتمالك نفسها وانهمرت في البكاء، وتساقطت دموعها متلاحقة، وأكدت أنها قالت له عندما دخلت عليه قبل دفنه مباشرة: '' انت عايش ملحقتش تموت قوم بطل هزار، انت سامعني وشايفني، لو زعلان مني سامحني، انت خدت كل رزقك في الدنيا، ووفيت عمرك ودي ساعتك ودي نهايتك وانا هزفك للسماء''.
لو عاد بك الزمن.. هل توافقين على دخول إبنك كلية الشرطة؟
بصوت حاد وقاطع، لو عندي ولاد تاني كنت دخلتهم بنفسي، ولكن لا أملك سوى بنتين، كلنا فداء لمصر، هى الأم والوطن، وهذا أقل ما يمكن تقديمه، ولن تسقط أبداً رغم كيد الحاقدين، وستظل مقبرة الغزاة، وشرف لي ولسائر أمهات الشهداء أن ينال أبنائنا تلك المنزلة الرفيعة التي تحدث عنها رب العباد.
ما هو الفرق بين عيد الأم في وجوده وبعد استشهاده؟
تلك المناسبة خاصة جداً لكل أم وننتظرها من العام للعام، وبكل تأكيد تغيرت الأحوال بعد استشهاده، وبالرغم من أننا كأمهات نبدو متماسكين إلا أنه تظل دموعنا لم تجف بعدما غيبهم الموت عن عالمنا، ولكن ما يهون علينا الفراق هو الإيمان بالله، والمنزلة الرفيعة التي وعدهم بها رب العالمين.
هل تتواصل معك الجهات المسئولة بالدولة بعد استشهاده؟ وما أثر ذلك في نفسك؟
أجابت مسرعة، مصر لم ولن تنسى أبنائها أبداً، وبشكل خاص أهالي الشهداء، ومنذ رحيله ونلت شرف مقابلة الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي احتضن نجلة إبني وبكى، وبكل أمانة التكريمات الكثيرة في مختلف المناسبات عوضتني كثيراً عن فراقه وأثلجت صدري، وشعرت أنني أديت رسالتي على أكمل وجه، وأنني جنيت ثمار تعبي وسهري لتربية إبني، وهذا تكريم يؤكد حرص الدولة على تكريم شهدائها واحتفاءها بهم دائماً.
وجهي رسالة لأمهات الشهداء في عيد الأم؟
أبنائكم الشهداء هم تاج على رؤوسكم، وسياخذون بإيدينا إلى جنة النعيم، وهم لم يموتوا ولن يموتوا لأنهم يعيشون معنا في كل وقت وأى مكان، ولكن رب العباد اصطفاهم، بعدما أدوا رسالتهم على أكمل وجه، وضربوا أروع الامثلة في التضحية فداء للوطن.
في النهاية وجهي رسالة إلى الشهيد البطل ضياء فتحي؟
تقول بصوت حزين وخافت: وحشتني يا ضياء وكل سنة وانت متهني في الجنة، انت في منزلة رفيعة، لا تنساني بالدعاء، واذكرني عند ربك، ''وماليش غير طلب واحد نفسي تجيلي في الحلم''