سكر مر.. "الفجر" ترصد معاناة مزارعي القصب بنجع حمادي في موسم حصاده (معايشة)
مع نسمات الفجر الباردة، يتسلل عمر أحمد، بين ثنايا حقول القصب، يتلفَّع بمِلفعته، قاصدًا محصوله- الذي مر على وجوده بالأرض 11 شهرًا-، قاطعًا مسافات طويلة، يستقبله مجموعة من الفلاحين يسيرون معا، يتبادلون الأحاديث والمزاح، حتى يصلوا إلى وجهتهم المقصودة، تبدأ الحركة تدب في الحقل مع بزوغ أشعة الشمس الأولى معلنة بدء نهار جديد من موسم حصاد قصب السكر في قرية "المصالحة" التابعة لمركز نجع حمادي بمحافظة قنا.
ينتقل صاحب الخامسة والعشرين ربيعًا، بخفة بين عيدان القصب، ليبدأ في كسره وتنظيفه، وهي المهام المخوَّلة له، منذ بدء الموسم في السادس والعشرين من يناير حتى نهاية إبريل "من طفولتي وأنا في الأرض..ايدي بايد أبوية وجدي"، كلمات مقتضبة يقولها "عمر"، بنبرة أسى؛ لتذكره أزمات الموسم السنوية في هذا الموعد من كل عام "القصب كان رزقه كبير على الجميع قبل ارتفاع الأسعار.. دلوكيت بيغطي تكليفته.. الموسم بيجي يسد الديون اللي استلفناها علشان نطلعوا من الأرض"، مقارنًا بين الوضع حاليًا والأعوام المنصرمة "زمان شوال الملح كان تكلفته٧٠ جنية حاليا وصل إلى ٣٠٠ جنيه والجمعية المختصة بالارض كانت بتجيبو للفلاح دلوكيت أنا بجيبه وهما رافعين إيديهم".
فردت الشمس أشعتها الحارقة على جسده، لكنه لم يتوانَ إلى وهّجها، مستكملاً عمله الشاق، والذي لم يربح منه الكثير "تكليفة الفدان 30 ألف جنية والمكسب يتفاوت ما بين 5 إلى 6 آلاف بمجمل 36 ألف جنية.. ده غير إن الجمعية الزراعية بتقبضنا بشهر أكتوبر بعد انتهاء الموسم بست شهور"، يقاطعه نجل خالته محمود حسين، ليساعده في ربط عيدان القصب "بنسقيه الشغلانة من صغره"، ليرد صاحب الـ(11عامًا) مبتسمًا "الموسم زي العيد عندنا بنتجمع كلنا وباخد 20 جنية في اليوم بعد ما أربط القصب ويحمله عمر بشحنه على القضيب (عربيات شركة دشنا)".
تطول الأحاديث بين الجميع داخل الأرض الشاسعة والتي تتراص فيها أكوام القصب فوق بعضها البعض؛ دون أن يمنعهم ذلك من العمل الجدي، بينما يشعل الصبي نار الحطب لتحضير "الشاي"، فيحتسي محمود، صاحب الـ(22 ربيعًا) شقيق عمر الأصغر كوبه على عجل وبيده الأخرى يقوم بتجميع القصب وربطه "مفيش وقت للراحة من الساعة 5 الفجر واحنا بنشتغل ولازم نساعد بعض كلنا علشان ننجز المحصول كله"، وبالرغم من التشققات التي تشبه الندوب، إلا أنه يقاوم ويستمر بعمله طيلة الموسم الذي يؤكد أنه متعبًا مقارنة بالمواسم الماضية، مرجعًا ذلك لانخفاض درجات الحرارة "القصب بارد وبيأثر على ايدي.. بس اتعودنا".
بعيداً عن حرارة شمس الظهيرة المرتفعة، جلس أحمد عمر محمود، تحت ظلال أعواد القصب، وأخرج من جيب جلبابه علبة السجائر، ليشعل سيجارته من نار الموقد الذي أمامه، في هذه الأثناء يقوم "محمد" في تنظيف القصب "دوري شيل القلوحة من القصب.. منها بساعد جيراني ومنها باخد القلوحات، للبهايم". ١٢ عامًا يقضيها صاحب الـ(40 عامًا)، في الأرض، بالرغم من أنه موظف يتبع لوزارة الأوقاف "بشتغل ماذن في مسجد في القرية.. لكن مرتبي قليل ومنقدروش على علف البهايم.. فبساعد الأهالي قصاد القلوحات.. وأهو تعب بالكذب".
لم يختلف حال عطيتو عبد العال، صاحب الـ(56 عامًا)، ويعمل وكيل شيخ غفر، بالقرية السالف ذكرها، كثيرًا عن محمد، فيستيقظ مع رفع آذان الفجر، ويذهب للأرض ليقوم بمهامه في كسر القصب حتى أن يأتي ميعاد عمله، ليعود مرة أخرى عقب انتهائه لتحميل عيدان القصب على العربات "اهي حاجة تسند مع المرتب"، لاسيما وأن لديه أربع أبناء، زوج ابنته الكبرى فقط، لعدم استطاعته على تجهيز الثانية "يمكن يطلعلنا فلوس كويسة في الموسم نعرف نجيب منها ولو حاجة بسيطة للبنية".
ينتهي صاحب الـ(61 عامًا)، من شرب سيجارته، ليعود مجددًا إلى تنظيف القصب، في أرضه الذي ورثها عن أبيه، والتي تعد بمثابة البيت الكبير للم شمل الأسرة والجيران "رزق بنتشارك فيه حتى ولو قليل"، يهرول الأطفال من حوله بعضهم يلهون والآخرون يساعدون آبائهم، بينما ينهمك محمود أبو بكر، (39 عامًا)، سائق في شركة سكر دشنا، التابعة للمحافظة- منذ عشر سنوات-، في تحميل القصب "باجي الظهر اشحن القصب واكلي كام واحدة"، قدَّ الحديث صاحب الأرض-والذي كان يعمل عاملاً بإحدى المدارس الابتدائية بالقرية حتى يونيو الماضي-، متحدثًا عن الأزمات التي تواجهه خلال الموسم "الانفار غالية علشان كده الكل بيساع.. كان النفر بيكلفني ٥٠ جنية دلوكيت بيصل إلى ١٠٠جنية وشحن العربية كانت تكلفتها 50 جنية لكن في الموسم ده٢٠٠.. والعربيه بتاخد ٤ طن والنفر اللي سايقها ١٠٠ واللي بساعده في التحميل ١٠٠ يوميا بعني كل عربية تصرف ٥٠٠ إلى ٦٠٠ جنيه لما أجيب ٤ طن يوقف علينا الواحد بـ١٥٠ جنية.. ده غير مصاريف مية الري.. علشان كده بشتغل بإيدي وأوفر أجرة نفر"، ورغم أن الموسم لم يجني أموالا كثيرة إلا أن عدم زرعته بمثابة "العار"، وفق لما يراه أحمد "الفلاح ما يهمل أرضه واصل".
عاد موسم قصب السكر- الذي يعد من المحاصيل الإستراتيجية التي تشتهر بها قنا-، حاملاً معه بشائر الخير لمحمد أحمد، والذي يقتصر دوره في تقطيع القصب بعد تنظيفه إلى قطع صغيرة، وهي المرحلة قبل الأخيرة، فيقف صاحب الـ26 ربيعًا)، منذ طلوع الشمس حتى رفع آذان العصر يوميًا ممسكًا آلة حادة للتقطيع-والتي تأثر عليه عقب انتهاء الموسم-"عايش على المواسم بس.. وما بنلحقوش نطيب من أثار الشغل.. بقالي٤ شهور ما بعرف أنام من ايدي وظهري لكن صعب نتغيب عن لقمة عيشنا.. لازم اشتغل لحد لغايه ما نودي القصب المصنع".
بعد انتهاء الجميع من أداء مهامه، جلسوا يتقاسمون بعض الطعام، وهم يتجاذبون أطراف الحديث، محاولين أخذ قسط من الراحة، ليمر يومهم بعيدا عن الإحساس بالتعب والشقاء رغم صعوبة المهمة "القصب دايمًا مجمعنا"، يقولها عمر مبتسمًا وهو يحاول يلهو مع ابن خالته، الذي حاول يكسر شقاء اليوم بسكر القصب.