تفسير الشعراوي للآية 178 من سورة الأعراف
تفسير الشعراوي للآية 178 من سورة الأعراف
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(178)}
وهذه الآية هي الوحيدة التي جاء فيها سبحانه وتعالى: {المهتدي}- بالياء- بينما جاء المولى سبحانه وتعالى بكلمة (المهتد)- من غير ياء- في آيات متعددة عدا هذه الاية: واقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد...} [الإسراء: 97].
ويقول الحق: {... فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26].
وكذلك تأتي الكلمة بدون (ياء) في قوله سبحانه: {... مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17].
والمعركة الخاصة بقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم، ولا تزال أيضاً ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن، وأوضحنا هذه القضية من قبل ولكننا نكررها للتأكيد ولتستقر في الأذهان، لأن هناك دائماً من يقول: إذا كان الله هو الهادي والمضل، فلماذا يعذبني إن ضللت؟. وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة. ونقول لكل مجادل: لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا لا تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت؟. إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر. ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم.
وضرَبْنا من قَبْلُ أمثلةً كثيرة. لنفرق في هذه المسائل بين المختلفين؛ لأن الجهة عندهم منفكة وهم قد ناقشوا مسألة (خلق أفعال العباد) وتساءلوا: مَنْ خلق هذه الأفعال؟ هل خلقها الله أم أن العبد يخلق أفعاله؟.
ونسأل: ما هو الفعل؟. إنه توجيه طاقة لإحداث حدث؛ فطاقة اليد أنها تعمل أيَّ عمل تريده منها؛ قد تضرب بها إنساناً أو تحمل بها إنساناً واقعاً على الأرض، أو تربت بها على اليتيم.
إذن ففي اليد طاقة تصلح لأن تفعل الخير وتفعل الشر، وأنت لحظة أن تضرب إنساناً؛ فأي عضلة تحركها حين ترتفع اليد لتضرب؟. إنك بمجرد رغبتك في أن تضرب؛ تضرب؛ عكس الإنسان الآلي حين يرفع شيئاً، فله أجزاء وأزرار تعمل. وكلها آلات.
وأنت حين تربت على كتف يتيم، ما هي الأعضاء والأجهزة التي تحركها لتعمل هذا العمل؟. إذن فالله هو الذي خلق فيك الانفعال للفعل. فإن نظرت إلى ذلك، فكل فعل من الله، ولكن توجيه الجارحة إلى الفعل هو محل التكليف.
إذن فأنت تحاسب لأنك فعلت، لا لأنك خلقت؛ لأن خالق الأفعال هو الله سبحانه وتعالى، وأنت تفعل بمجرد الإرادة والاختيار، مثل اللسان فيه طاقة مخلوقة لبيان ما في النفس؛ إن أردت أن تقول بها (لا إله إلا الله) صلحت، وصلحت كذلك عند الملحد أن يقول- والعياذ بالله- لا يوجد إله. واللسان لم يعص في هذه ولا في تلك.
إذن فالذي خلق قدرة الجارحة على الفعل هو الله. وأنت توجه الجارحة، إذن فكل الافعال مخلوقة لله، لكن توجيه الطاقة للفعل بالميل والاختيار إنما يكون من العبد. والحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع بالمنهج، ومن يقبل عليه بنيَّة الإيمان، يعينه على ذلك، ولذلك لا يصح أن نختلف في مسألة مثل هذه، وأن نسأل من خلق الأفعال، بل علينا أن نحدد الأفعال وكيف توجد، وما دور الإنسان فيها؛ لأننا نعلم أن الله قد يسلب طاقة الفعل على الأحداث، مثل من يريد أن يؤذي إنساناً بيده لكنه يصاب بشلل فلا يقدر أن يرفع يده. ولو كان هو الذي يخلق لرفع يده وآذى بها من أراد، لكنه لا يخلق الطاقة الصانعة للفعل.
وعلى ذلك تكون الهدايةُ نوعين: هداية دلالة، وهي للجميع؛ للمؤمن والكافر؛ لأن الحق لم يدل المؤمن فقط، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به، فمن يُقْبل على الإيمان به؛ فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة، فيأخذ بيده، ويعينه، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه، ويعطي له طاقة لفعل الخير، ويشرح له صدره وييسر له آمره: وسبحانه القائل: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله...} [البقرة: 282].
ويقول سبحانه وتعالى: {... وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178].
فإذا كان الله قد عمّم حكماً ثم خصّصه، فالتخصيص هو الذي يحكم التعميم.
ويقول ربنا عز وجل: إن من شاء هدايته فهو سبحانه وتعالى يعطيه الهداية، ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً، وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي وهذه معونة من الله، والكافر لا يهتدي وكذلك الظالم، والفاسق؛ لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره، وهكذا يمنع سبحانه وتعالى عنهم هداية المعونة. ونقرأ في القرآن الكريم ما يوضح هذه المسألة، فهو سبحانه يقول: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى...} [فصلت: 17].
والهداية التي كانت لقوم ثمود إنما هي هداية الدلالة، وليست هداية المعونة.
ويقول سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
أي أنه سبحانه قد زاد من اختاروا الهداية، بالمعونة وجعل بينهم وبين النار وقاية، والحق سبحانه وتعالى يقول لرسوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ...} [القصص: 56].
أي أنك يا محمد لن تعين أحداً على الطاعة لأن هذا أمر يملكه ربك.
ويقول سبحانه لرسوله: {... وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
أي أنك يا محمد تهدي هدايةَ الدّلالة بالمنهج الذي أنزله الله إليك.
إذن إذا رأيت فعلاً أو حدثاً مُثبتاً لواحد ومنفياّ عنه.. فاعلم أن الجهة منفكة، والكلام هنا لحكيم عليم. ولماذا يقول الحق سبحانه: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178].
لأن الحق سبحانه وتعالى حين ينصرف عن معونة عبده، فعلى العبد أن يواجه حركة الحياة وحده بدون مدد من خالقه. ويعيش وحالته كرب، سواء كان في يسر مادي أو في عسر. هذا إن اعتبر أن الدنيا هي كل شيء، فإذا أضيف إلى ذلك غفلته عن أن الدنيا معبر للآخرة، فالخسارة تكون كبيرة حقاً.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً...}.