سليم صفي الدين يكتب: الحب بين الإسلام والمسيحية "قصة قصيرة"
جَنَّ الليل الذي أستشرف قدومه بالحبة الحمراء التى تقدم إليَّ لتناولها، كانت تلك الليلة هي الأولى التي أتلكم فيها منذ نحو أربعين يوما من الصمت التام. طلبتُ ورقة وقلما، فاستجاب طبيبي على الفور. أجلس هنا في حجرة كئيبة لا نافذة فيها ولا شيء، نورها خافت، بيضاء اللون، مبطنة من كل جوانبها وأرضيتها، تسمى حجرة العزل، صُمِّمت خصوصا للمرضى النفسيين الذين قد يؤذون أنفسهم، أو يحاولون الانتحار؛ مراقبة بالكاميرات. لا أفعل أى شيء مطلقا غير أن أهيم في الذكريات التي عشتها مع حبيبتي «فاطمة» سيدة النساء، هي جاءت أولا ثم استنسخت الرحمة من فيض سماحتها، وتجلت على الأرض كل الطيبة والجمال من تلقائيتها ولغتها البسيطة، ونُصحها الذي يعد بابًا لسبل النور والسكينة.
كنت يومها أجلس إلى مكتبي في الجريدة التي أعمل بها، متوترا قلقا دون سبب، منفعلا عصبيا لأتفه الأسباب، استغربني الجميع بقدر ما استغربت نفسي، سجينة روحي مكبوتا، أمسكتُ بفنجان القهوة، فسقط مني دون وعي على جهاز اللاب توب فأغرقه، انفعلت أكثر فضربته بيميني، فسقط على الأرض مكسورا؛ هُرِعَ الجميع إلى مكتبي الذي كان فارغا رغم احتوائه على ثلاثة مكاتب أخرى لزملائي بقسم السياسة، الذين تركوا المكتب من كم عصبيتي وألفاظي التي لم يعتادوا عليها، تكلموا جميعهم في وقت واحد: "فيه إيه يا مينا؟ مالك؟"، لم أرد، وخرجت لا أعرف إلى أين، فقط لا أريد أن أرى أحدا. اصطدمت برئيس التحرير؛ نظر في وجهي، ثم طبطب على كتفي قائلا: "تعالى.. تعالى". اصطحبني إلى مكتبه، أشعر أنني أستطيع هدم أي شيء بصرخة غضب مني، ولا أعرف السبب. جلست أمام صاحب البشرة السمراء، مكتبه أبيض اللون، يرتدى بدلةً زرقاء وكرافت بنفس اللون. رفع سماعة هاتفه وطلب لي ليمونا، أعطاني سيجارة ميريت أصفر، أشعلتها دون تردد، وما إن بدأ في الحديث حتى رن هاتفي؛ هنا عرفت سر الانفعال، روحي كانت تنازع للبقاء، أو تتجهز للرحيل، رددت:
- ألو
أجابني صوت أجهش بالبكاء: أيوه يا مينا، إنت فين؟
خفق قلبي وأجبت: في الجورنال يا مي، إيه الصوت اللي جنبك ده؟
- فاطمة تعبانه، تعالى!
قبضت بيدي اليمنى على مسند الكرسيّ كأنني أتشبث به حتى لا أسقط: لا مش تعبانه، إيه الصويت اللي جنبك ده؟ فاطمة مالها يا مي؟ ردى علىَّ! اللي فى خيالى صح؟
طعنتني بردها: البقاء لله وحده!
فقدت وعيي، فسقطت بكلي على المنضدة التي تتوسط الكرسيين اللذيّن أمام مكتب رئيس التحرير، فأغرقت المكتب بالليمون الممزوج بدمي، فارتطمت بالكرسي أمامي، وسقطنا جميعا. أفاقوني ولا أعرف ما الذي جرحني، ولكن ما إن عدت إلى وعيي حتى صرخت: "فاطمة ماتت، ماتت"، ثم انطلقت مسرعا والجميع ورائي يهتفون باسمي. نزلت إلى الشارع أتلفت يميا ويسارا، لا أعرف ماذا أفعل، من لي من بعدك يا حبيبتي؟ "إِن كنتِ بالغيب عن عينيَّ مُحْتَجِبة.. فالقلب يرعاكِ في الإبعاد والنائي" (1)، كيف أنتقل إلى حضرتها في التو والحال؟
جاء رئيس التحرير من خلفي، جرني من يدي نحو سيارته وانطلق بي، شغّل الراديو على محطة القرآن، خبطت بيديّ على التابلوه، وضربت أرضية السيارة بقدمي: "مش عايز أسمع حاجة، مش عايز أسمع حاجة"، أطفأ الكاسيت واعتذر: "خلاص خلاص، أنا آسف". أرحت ظهري على المقعد، ونظرت إلى يمين الطريق، تارة أبتسم حين أرى وجهها البسام، وأعبس أخرى حين أتذكر الرحيل.. آه، من يعي ما أنا فيه الآن غيرك؟ شكواي منكِ يا سيدتي وهي إليك، من يحنو عليّ من بعدك، أكادُ أشكُّ في نفسي لأني منكِ.. كيف أحيا أنا وقد رحلتِ؟ هل تركتُكِ أنا أم أنت تركتِني؟
كنتُ أرتدي يومها بدلة سمراء اللون، كأن روحي كانت تتجهز لهول الرحيل، وقميصا أبيض ورابطة عنق سمراء، وحذاء من نفس اللون، كل شيء أسود، حتى نور الشمس. كنتُ إن تخيلت الرحيل ينتابني الانهيار وتغرورق عيناي بالدموع؛ حاربنا معا في كل شيء، روحها كانت تدفعني دائما إلى الحب والخير والمحبة والتحمل، كنّا نغنى سويا (يا ساكنة حينا لكاظم الساهر) فأقول أنا:"تصومي ثلاثينكِ وأصوم خمسيني" وهي تقول العكس، صوتها الهادئ كان يملأني بالراحلة والطمأنينة، مهما كانت الأمور صعبة الله سييسر كل أمر، غبت عنكِ يا حبيبتي، رغم أن الغياب كان من أجلك، لكني أشعر بالتقصير والذنب، تركتكِ في أحلك الظروف وأشدها، وما تركتِني مرةً، "فَلَكَمْ ذهبتِ وأنتِ غاضبةٌ.. ولكّمْ قسوتُ عليكِ أحيانا"(2) الآن ذهبتِ بلا رجعة، ولن أعيش من دونك...
اقتربنا من المنزل، لم أنتظر، نزلت مسرعا من السيارة قبل بيتها بعدة أمتار، وصدري مبتل من زخات الدمع، وجسدي مكسو بدمي من أثر سقوطي فاقدا الوعي. هرولت إلى منزلها في الطابق الثاني بمنطقة الدقي، لا أرى غير أشباح بشر توشحوا بالسواد، ارتطمت بأخيها الذي حاول الصمود كعادته، احتضنني بشدة، فدفعته عني حتى سقط على الأرض، وانطلقت إليها، دخلت حجرتها الضيقة بسبب كثرة محتوياتها: دولاب أمام الباب مباشرة، وتسريحة عن يمينه، وعلى اليسار في وسط الحجرة سريرها الذي تشرف بنومها عليه حتى لحظاتها الأخيرة. كانت مغطاة كلها بلحاف ذي لون أبيض، ركعت على ركبتي أفك عنى الكرافت، أختنق تماما، لا أريد أي شيء على جسدي، بدأت يدي اليمنى تتحسسها من فوق الغطاء، أرتعد كلي، يدي تكاد تُشَل، وعقلي غير مستوعب، هل ما أنا فيه حقيقي؟ رَحلتِ؟ لمن أعيش إذًا؟ قومي.. قومي أرجوكِ وقولي إنها مزحة، إنني أعيش كابوسا من إعداد الشيطان، أوليس الله كما قلتِ لي هو الرحمة؟ لماذا نزع عني الرحمة وأغرقني في هول الرحيل؟ لماذا أخذك مني وهو يعرف أنني أنتِ؟ احتضنتها بذراعي اليمنى من فوق الغطاء، وكلي ملقى على كلي، حاولت استجماع قوتي كي أراها، أجتهد بشقاء أن أرفع الغطاء عنها، أجرّه برفق، بل أجر كلي كي أستطيع أن أزيحه عنها، ثقيل كالجبل، أمصنوع من حديد أم من قماش هذا الغطاء ألقميء؟ ظهر وجهها، بسام كما عهدته، بسمتها كما هي، أرى صفوفها اللؤلؤ بوضوح، هززتها بيديّ، انطقي، هل رحلتِ؟ أخبريني، هل ما قالوه لي حق؟ تركتِني؟ باحت بواطني بما تحمل من ألم: آآآه.
احتضنني أخوها من خلفي، فلم أشعر بأنه موجود معي، انحنى بكل جسده يحاول أن يحملني، وأنا أخبط كل شيء يقابني وأعبث بكل من حولي، اليوم أنا طفل صغير يبكي لأن أمه تركته وخرجت، لا يريد طعاما ولا مالا، هو يريدها فقط، أنا أريدها فقط!
أسمع أصوات المآذن تهتف برحيلها، كيف تتبجحون بقول "رحلت"؟ فهل يرحل النور؟ هي المسيح في عطفه، هي الشمس في بهجتها، لا تقولوا "رحلت"، بل خانت العهد وتركتني، قالت لي "لن أتركك أبدا"، فظننت أنها لن تموت قبل موتي، أسكِتوا المآذن المزعجة، فهي حية بالحب الذي علمتني، "مَسَاءً وَصَبَاحاً وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ فَيَسْمَعُ صَوْتِي" (3) اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ (4) جاءت إليك روحي يا إلهي فلا تحرمها ملكوتك، آه "أبكي على شجني من فرقتي وطني.. طوعا (وأُسعِدُهم) بالنوح أعدائي.. أدنو فيبعدني خوف فيقلقني.. شوق تمكّن في مكنون أحشائي.. فكيف أصنع في حبّ كَلِفْتُ به.. (مولاتي) قد ملّ من سقمي أطبّائي" (5). انقضى اليوم، وأنا لا أفهم، لا أعرف، لا أعي، ولا يجيبني أحد، أرحلتِ؟
"قالوا تداوَ بها منها فقلت لهـم.. يا قوم هل يتداوى الداء بالداءِ.. حبّى (لمولاتي) أضناني وأسقمني.. فكيف أشكو إلى (مولاتي مولاتي". (6)
دخلت حجرتها، صوت عبدالباسط عبدالصمد يدوي في المكان، "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى.... كنا نستطرب بصوته ونتمايل بالترانيم، جمعت كل ما أستطيع جمعه من متعلقاتها، هاتفها، وكل الإيشاربات التي كانت تحضن رأسها، عقدت إحداها كرابطة عنق حول رقبتي، وارتديت تيشرت أسود وبنطالا وحذاء من نفس اللون؛ الآن عرفت لماذا يتوشح الناس بالسواد بعد الرحيل، هو نفس اللون الذي يرى به المحبوب الكون بعد رحيل محبوبه. سحبت الشنطة، وخرجت، اعترضني أخوها، فبكيت، قلت: "هابقى كويس.. بس سِبني"، فتح الطريق لي لأمُرّ، هو نفسه يحتاج من يطيب خاطره، الفاجعة على الكل.
استقليت سيارة أجرة من "أوبر"، وذهبت إلى المصحة النفسية التي يعمل بها طبيبي النفسي، دفعت البابَ ودخلت، حاول الأمن اعتراضي دون جدوى ولا رد، هي فيلا كبيرة بيضاء اللون، ذات حديقة أكبر في المساحة من المصحة، مليئة بالورد والشجر والخضرة، يصل بين البوابة والمصحة طريق أسفلتي صغير في عرضه، بينما يجري فرد الأمن ورائي، رأيت الطبيب، سقطت على ركبتي واحتضنت شنطتي، وانخرطت في البكاء؛ هرول إليَّ، حملني بمساعدة الأمن وأدخلني مكتبه، بعد عناء قلت: "فاطمة ماتت"، قال كلاما كثيرا، وأجبت بالقليل، اختتم كلامه: "المهم تسمع كلامي"، فأشرت برأسي موافقا. مد يده إلى الشنطة فصرخت فيه: "دي لأ"، أحضر بيجامة بيضاء وقال: "غيّر لبسك"، ما إن انتهيت، حتى دخل شخصان ذوا بنية قوية وعضلات مفتولة، يرتديان زيا أبيض، الآن أكره كل ما هو أبيض، حملاني رغما عني وأنا أصرخ: "الشنطة، إديني الشنطة طيب"! ومن يومها وأنا هنا.
حصل الطبيب مني على ما كتبت، وأرسله دون علمي إلى رئيس التحرير الذي تابع حالتي جيدا، وأحضر لي في اليوم الثاني نسخة من العدد الورقي للجريدة، ففوجئت بنشر ما كتبت كما هو، دون تصحيح ولا تغيير ولا تصحيف، كانت الصحفة الأخيرة تحمل أقصوصتي ورسائل مكتوبة من زملائي بالجريدة، ابتسمت للمرة الأولى منذ رحيلها، واستوقفتي رسالة تحمل اسم «فاطمة» قالت صاحبتها: "إن كانت هي روحك ورحلَتْ، فأنت روحي فلا ترحل".
(1) من أشعار الحلاج بتصرف بسيط
(2) نزار قبانى، قصيدة "بعد العاصفة"ٍ
(3) المزامير 55: 17
(4) متى 7: 7
(5) و(6) من أشعار الحلاج بتصرف بسيط