فضائل أم المؤمنين خديجة
اختار الله ـ عز وجل ـ لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خديجة ـ رضي الله عنها ـ زوجة تؤازره وتُخفف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرسالة، وتعيش همومه، وهي أول امرأة تزوجها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكانت تُدْعى في الجاهلية بالطاهرة، وقد تزوجها بمكة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكان عمرها أربعين سنة، ولم يتزوج عليها ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدة حياتها حتى ماتت عن خمس وستين سنة، وكان عمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موتها قرابة الخمسين عاماً، وهي أم أولاده جميعاً، إلا إبراهيم فإن أمه مارية القبطية ـ رضي الله عنها ـ، وأولاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها هم: القاسم و به كان يُكَنَّى، وعبد الله، أما بناته ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة .
قال الذهبي: " هي أول من آمن به وصدقه قبل كل أحد، وثبتت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل عندما جاءه جبريل أول مرة في غار حراء، ومناقبها جمة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة جليلة دينة مصونة من أهل الجنة، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يثني عليها ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها حتى قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: " ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها " .
وقد اختص الله ـ عز وجل ـ خديجة ـ رضي الله عنها ـ بفضائل وكرامات كثيرة، منها :
أول من آمن :
أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ أول من آمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النساء، بل أول من آمن به على الإطلاق، فكانت أول من استمع إلى الوحي الإلهي من فم النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد أجمع المسلمون على أن خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ هي أول الناس إسلاماً من هذه الأمة، فلم يسبقها إلى الإسلام أحد، فمنذ أن أُوِحَيَ إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: ( حتى خشيت على نفسي )، لم تتردّد لحظةً في تصديقه وقبول دعوته، لتكون أول من آمن به، وقالت مطمئنة له: ( لا، والله لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق ) .
قال الزهري: " فكانت خديجة أول من آمن بالله، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
وقال ابن إسحاق: " كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق ما جاء به " .
وقال ابن الأثير: " خديجة أول خلق اللَّه أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة " .
وقال الذهبي: " هي أول من آمن به وصدقه قبل كل أحد ".
وقال ابن حجر: " ومما اختصت به ـ خديجة ـ سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهن، لما ثبت : ( أنه من سن سنة حسنة فعمل بها بعده، كُتِب له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء ) " .
وقال الشيخ ابن عثيمين: " لا شك أنها أول من آمن به، لأن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ لما جاءها وأخبرها بما رأي في غار حراء، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، وآمنت به، وذهبت به إلي ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر " .
خير نساء زمانها :
من فضائل خديجة ـ رضي الله عنها ـ ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها من خير نساء هذه الأمة، فقد روى البخاري عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ( خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة )، وعند مسلم: ( خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد ) .
قال أبو كريب: " وأشار وكيع إلى السماء والأرض "، قال النووي عند شرحه الحديث: " أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها، وأن المراد به جميع نساء الأرض، أي: كل من بين السماء والأرض من النساء، والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه " .
أفضل نساء الجنة :
من مناقبها ـ رضي الله عنها ـ أنها أفضل نساء الجنة، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ) رواه أحمد وصححه الألباني .
سلام الله عليها، وبيت في الجنة :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أتى جبريل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام ، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربِّها ومنِّي، وبشرها ببيت في الجنة من قصب (لؤلؤ مجوف واسع)، لا صخب (علو صوت) فيه ولا نصب (تعب) ) رواه البخاري .
منقبتان عظيمتان لأم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ: الأولى: إرسال الله ـ عز وجل ـ سلامه عليها مع جبريل وإبلاغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: " وأرسل الله إليها السلام مع جبريل، وهذه خاصة لا تعرف لامرأة سواها "، والثانية: البشرى لها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب .
وقال السهيلي: " وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تتعبه يوماً من الدهر، فلم تصخب عليه يوماً ولا آذته أبداً " .
وقد أبدى السهيلي لنفي هاتين الصفتين ـ الصياح والتعب ـ حكمة لطيفة فقال: " لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة ـ رضي الله عنها ـ طوعاً، فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب، بل أزالت عنه كل تعب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها "، وقال: " فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضاً غيرها، وجزاء الفعل يذكر غالباً بلفظه وإن كان أشرف منه، فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر" .
وقال ابن حجر: " وفي البيت معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ }(الأحزاب من الآية: 33)، قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاطمة وعلياً والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: ( اللهم هؤلاء أهل بيتي ) الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة، لأن الحسنين من فاطمة، وفاطمة بنتها، وعليّ نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها " .
لم يتزوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها :
من خصائصها التي انفردت بها دون سائر أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتزوج عليها حتى فارقت الحياة الدنيا، فعن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( لم يتزوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على خديجة حتى ماتت ) رواه مسلم .
قال ابن حجر: " وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً، انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاماً وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها " .
حب ووفاء :
الوفاء خلق كريم، وكان نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه بالمحل الأفضل والمقام الأسمى، والمكان الأشرف، فوفاؤه كان مضرب المثل، وقد حفظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزوجته خديجة ـ رضي الله عنها ـ فضلها، وكان وفياً لها في حياتها وبعد موتها، ومن صور ومظاهر وفائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معها: أنه كان دائماً يذكرها بخير في حياتها وبعد مماتها، وكان يكرم صديقاتها بعد موتها، ولما رأت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكْثِر من ذكر خديجة ـ رضي الله عنها ـ، ويهدي إلى صديقاتها، قالت: ( كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ) فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرد بقوله: ( إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد ) رواه البخاري .
قال النووي: " في هذا الحديث دلالة حسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب " .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أتي بالشيء يقول: ( اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنها كانت تحب خديجة ) رواه الحاكم وحسنه الألباني .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ( استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعرف (تذكر) استئذان خديجة فارتاح لذلك ( سُرَّ لمجيئها وصوتها لأنها ذكرته بخديجة)، فقال: اللَّهم هالة، قالت: فغِرْتُ فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين ( عجوز سقطت أسنانها )، هلكت (ماتت) في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما أبدلني الله خيرًا منها، قد آمنتْ بي إِذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إِذ كذبني الناس، وواستني بمالها إِذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إِذ حرمني أولاد النساء ) رواه أحمد .
قال القرطبي: " كان حبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها لما تقدم ذكره من الأسباب، وهي كثيرة كل منها سبب في إيجاد المحبة " .
وقال ابن العربي: " كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها، فرعاها حية وميتة، وبَّرها موجودة ومعدومة، وأتى بعد موتها ما يعلم أن يسرها لو كان في حياتها " .
وعن عائشة ـ رضي اللَّه تعالى ـ قالت: ( جاءت عجوز إلى النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو عندي، فقال لها: من أنت؟، فقالت: أنا جثامة المزنيّة ،قال: بل أنت حسّانة المزنية كيف أنتم؟، كيف حالكم؟، كيف كنتم بعدنا؟، قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، فلما خرجت، قلت: يا رسول اللَّه، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟، فقال: إنّها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان ) رواه الحاكم وصححه الألباني .
لقد كانت أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ طوال حياتها مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلاً طيباً للزوجة الصالحة، التي تعين زوجها على أعبائه، وتقف معه بالحب والإيناس والعون، وهي ممن كمل من النساء، وبقيت معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن أكرمه الله برسالته، فآمنت به ونصرته، وكان لها في حياته - صلى الله عليه وسلم ـ عظيم الأثر، ولها عند الله عظيم الأجر والمنزلة، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُثني عليها ويبالغ في تعظيمها، ويقول: ( إنِّي قدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا ) رواه مسلم .