إن أكرمكم

إسلاميات

إن أكرمكم
إن أكرمكم


هنا نقف مع نداء إلهي آخر للناس بمجملهم، هذا النداء يقول الله تعالى فيه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهو نداء يأتي في سورة الحجرات، التي بدأت بحديث عن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتدرجت إلى العلاقات الاجتماعية وأحكامها، فمن النهي عن تلقي الأخبار بالتصديق الفوري دون التبين خاصة مع خروج المصدر عن الصراط السوي، مع تنبيه على عاقبة هذا الأمر، ثم تدرجت لتحريم السخرية بين الناس، بين الرجال والنساء، والتنبيه على أن المظهر لا يعكس أفضلية الإنسان أو دونيته، بل يعكس حسب حالته التي هو عليها، وأن الخيرية معقودة بعوامل قد لا يكون الناس مطلعين عليها، مهما كانوا لصيقين بالشخص عالمين بحاله، ثم تلا ذلك التحذير من الغيبة وضرب مثال صعب التصور وهو الأكل من لحم الإنسان الميت، مع كراهية النفس له، والنهي عن الظن السيئ بالناس، وعن التجسس عليهم، ومحاولة التلصص على عوراتهم.

وهنا يأتي النداء مجددا حاملا معنى المساواة بالتذكير بأصل الخلقة الواحد من ذكر وأنثى، وأن التحول لشعوب وقبائل كان (جعلا) إلهيا، وثمة فرق دقيق بين الخلق والجعل، فالخلق ألصق بالفطرة، فيما الجعل مسار للفطرة والخلقة الإنسانية تأخذه تبعا لوقائع التاريخ، وأثر الزمان والمكان، واستقرئ هذا تجده بعون الله صوابا. فالتحول لشعوب وقبائل كان بحكم الزمان والمكان والضرورات، ولكن الحكمة الإلهية كانت كامنة وراء ذلك، وهي (لتعارفوا)، أي ليقع التعارف، ووزن تفاعل دال على العلاقة المتبادلة بين الشيئين، فكل يعرف الآخر.

تقفز الآية لتقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فهي تقفز بنا لمعنى الألوهية وليس الربوبية، فمن عبدالله تعالى فهو تقي ثم يتفاضل مع غيره، فهو أكرم من غيره عند الله تعالى، ولكن فيما بين الناس فلا ميزان تعرف به التقوى، لذا قال: (عند الله)، وما عدا ذلك فالناس متساوون، وإلا فلو فرضنا عدم تساويهم وتفاضلهم بالتقوى الظاهرية لما عوقب أحد على جريمة إذا أبدى صلاحا وكرم خلق، فهذا يقضي على التصنع، والرياء، والمداهنة، ويقضي على السخرية، وسوء الظن.

ولكن ماذا بعد (لتعارفوا)؟

إن تحقيق التعارف الحق بين الشعوب والقبائل والأفراد بالتبع، يقتضي أولا عدم تلقي المعلومات عن الآخرين من مصادر (فاسقة) بغير تبين، وعدم التقليل من شأن الآخرين (السخرية)، وعدم غيبتهم، وعدم الظن السيئ بهم، بهذا تُنَقَّى العلاقة بين الأفراد، بل والشعوب والقبائل.

فلم لم يعبر القرآن عن الشعوب والقبائل بلفظ الأمم؟

لفظ الأمة يرد في مواطن تتعلق بالتدين، وتتعلق بالملل، وتتعلق بالجماعات الكبيرة، والقرآن يريد هدم الفوارق المبنية على التفاضل العرقي فذكر الشعوب والقبائل، وهي وحدات أصغر من الأمة في التوصيفات القرآنية المرتبطة بالأديان والملل.