سليم صفي الدين يكتب: ما بين أنساق الفكر وطرائق التفكير (حول آلية النقاش)

ركن القراء

سليم صفي الدين
سليم صفي الدين


نشأتُ على حلقات النقاش العائلية التي كانت تدار بين أبي وأعمامي كل جمعة حول السياسة والدين وأمور المجتمع، تعلمت منها الاحترام والمنطق والهدوء في الرد، وقبول الرأي الآخر مهما كانَ مختلفًا، ورغم أن حديثهم كان كبيرًا على عقلي وسني وقتها، كنت أجلس كأن على رأسي الطير، في موضع جلل أتابع الردود والكلام وأنبهر بالمنطق والاحترام وأسعد عندما ينتصر أبي! وكنت أشاهد برامج تليفزيونية يدير المحاور فيها حلقات نقاش بين الضيوف، لم تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت تحدث بين أفراد عائلتي، فلا أنسى برنامج "الناس وأنا" للفنان الجميل حسين فهمي عام 2009 وحلقات النقاش المثمرة التي كانت تتضمنها حلقاته، وضيوفه وأسلوب إدارته للحوار.

إلا أن الوضع منذ انطلاق ثورة يناير -ويؤسفني أن أقول هذا- صار مزريًا للغاية، فالنقاش لم يعد له معنى ولا مضمون، ولا يصل إلى أي نتيجة! ويعود هذا في رأيي إلى تفريغ محور النقاش من مضمونه، وتحويله إلى حلبة مصارعة يجب أن يخرج فيها منتصر ومهزوم. ومن هنا جاءت فكرة المناظرات القميئة التي لا تحمل أي مضمون ولا معنى، غير صراخ أهوج وتراشق بالألفاظ والأحذية، وهذا أمر طبيعي في ظل غياب المنطق وروح الاختلاف. فعندما يحاول سياسي مثلاً مناقشة التعديلات الدستورية التي يعمل البرلمان عليها في الوقت الحالي، يدخل في النقاش معه مؤيد ومعارض، المؤيد في الغالب لا يضيف جديدًا –ولكل قاعدة شواذها- أما المعارض لا ينتقد نقاط القضية أو محاورها، إنما يشيعها فيخلط الأمور جميعها، فتصير مناقشة تلك التعديلات مفيدة لمصر، وتخدم الأمة، ومن يرفضها خائن! فتتحول المسألة من نقاش حول أهمية التعديلات من عدمها، ومناقشة وتفنيد المواد المزمع تعديلها، إلى اتهامات بالخيانة ومعاداة الرئيس!


عندما تطرح قضية للنقاش، يجب ألّا يخرج النقاش عن الأطر التي تتمحور حولها القضية المطروحة، وذلك حتى يتسنى للمتناقشين الوصول إلى نقاط اتفاق، وإن لم يصلوا فيجب احترام وتقدير فكرة الاختلاف. إلا أن ما يحدث، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو في القنوات التليفزيونية أو حتى بيننا في البيوت أو المقاهي، ينقسم إلى نوعين: الأول شخص يمتلك معلومة، فيتعالى على من يسمعه، والثاني: حالة من الصراخ كأن الحجة في رفع الصوت، تنتهي غالبًا بـ"البلوكات" أو خسارة الصديق لصديقه!

غالبًا يتم تقديم الأشخاص في الإعلام المصري، أو حتى في مواقع التواصل الاجتماعي، على أنهم أصحاب أفكار مختلفة وقيّمة، غير أن هناك فارقًا كبيرًا بين الأفكار والتفكير، فالتفكير هو نقاش لأفكار وقضايا مطروحة بالفعل "وهذا ما يدور فيه أغلب من يوصفون بأنهم أصحاب أفكار"، أما الأفكار فهي طرح جديد أو تطوير لنظرية أو مفهوم. الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز" قال: "وجود الفكرة شكل من أشكال الاحتفال، وذلك لأن الفكرة هي مظلة الأفكار الجديدة والمفاهيم المتطورة، فالفكرة تعني اضمحلال ما هو قديم". 

الذين يناقشون قضايا الحجاب والنقاب والتراث... إلى آخره، ليسوا أصحاب أفكار، فلا يمكن القول إن "أفكارهم جيدة"، إنما "تفكيرهم جيد"، فهم يفكرون ويدورون في إطار أفكار أو قضايا مطروحة بالفعل، أما صاحب الفكر فهو من يقدم نظرة جديدة أو مشروع قانون، أو يطور من مفاهيم جامدة من أجل الوصول إلى ما هو أفضل.. "مفكر، فيلسوف".

النقاش محاولة لتقريب وجهات النظر، ومعرفة مفاهيم جديدة، بل خلق وتطوير المفاهيم، وليس صراعًا لإثبات وجهات نظر من أجل الانتصار على أخرى. النقاش تواصل فكري ووصال معرفي.