العِلمُ وسَيرُ الليالي والأيام
للعلم أسسٌ وقواعدُ في تحصيله، فقِهها السلف الأوائل، وهو أنه يجنى بالتدرج والتمهل المتواصل، عبر سير الأيام والليالي، ولا يمكن التهامه بالكلية، أو أخذه دفعة واحدة، وضبطه في وجبة مليئة مشبعة، إذ العلم بحار واسعة، وقصور شاهقة، تُدرك بالمراحل، وبالحصى والقطرات المتلاحقة.
- ومن الخطأ المنهجي في الطلب العلمي، أن بعض الطلاب يروم اهتضام العلم سريعا، فالمتون تُحفظ، والمطولات تُجرد، والكتب تُشترى، والشيوخ تُبتغى.!
- وهنا قاعدة منهجية للإمام ابن شهاب الزهري رحمه الله(ت١٢٤)هـ ، قعّدها لتلميذه يونس بن يزيد رحمه الله قال: يا يونس : " العلم أودية إن نزلت أو قطعت واديا أو دخلت واديا، قطعت أو قطعك دون أن تصِله ، ولكن خذه مع الليالي والأيام ، فمَن رامَ العلم جملة، فاته جملة".
- ويؤيد ذلك قول القائل : اليومَ شيء وغدا مثله.. من نُخب العلم التي تُلتقط.
يحصّل المرءُ بها حكمةً... وإنما السيل اجتماع النقطْ .
- فالعلم نقطة ونقطة، ومسألة ومسألتان، وحديث وحديثان، حتى تبلغ البلوغ، وتصل القمة، وتصعد الجبل، وتنال المنال.
- فالأناة والصبر، والتريث والتدرج والإصرار شروط للنيل والبلوغ، وأما الهجوم ومحاولة الالتهام السريع، والاستعجال المعرفي، فلا يحقق غاية، ولا يبلغ آية، ولا يوصل إلى منتهى العناية والدراية.
- وفِي قوله صلى الله عليه وسلم (أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بطحان، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، ولا قَطْعِ رَحِمٍ؟، فقلنا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ:أفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاثٌ خير لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وأربع خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبل). ما يشير إلى قضية التدرج والتقلل من العلم حتى يصل الغاية، ويبلغ المنتهى.
- وهذا شيء محسوس بالتجربة فإن القرآن والأحاديث لا تُحفظ في يوم واحد، فضلا عن مجلس واحد، والمطروح قديما وحديثا، هو ختمه في يوم أو ليلة وليس حفظه، وهذا قد حصل لكثيرين.
- وعن الإمام مالك بن أنس رحمه الله، أنه عاب العجَلة في الأمور، ثم قال: " قرأ ابن عمر البقرة في ثمان سنين". وقد يوجد من يحفظها الآن في ساعات سريعة، ولكن التدرج يرسخها ويثبتها، ويزيد من ضبطها، العناية بها فهما وأحكاما وتدبرا واستنباطا، فيتعلم منها الإيمان والعلم والعمل والتدبرات .[أفلا يتدبرون القرآن..].
- والمهم أن لا ينقطع عن الطلب والتعلم ولو النزر اليسير، والعلم القليل، والمسائل المحدودة، فإنها تتبارك وتتنامى مع مرور الأيام والليالي، وتُحدث أثرها في العقل والنفس.
- وما آفة العلم إلا الاستعجال بعد النسيان، وهو داء يحمل عليه قلة الوعي المعرفي، وفقدان فقه التدرج، والحرص الشديد دون تأمل ودراية .
- فما يقرأه الإنسان في أسبوع خير مما يقرأه في يوم، وما يقرأه في شهر خير مما يسرده في أسبوع وما يقرأه في ثلاثة أشهر خير مما يستعجله في شهر، في المعدل الطبيعي لكل كتاب، وهلم جرا.
- وهذه المقولة الذهبية والقاعدة النورانية، ردٌ على من رهن العلوم بمدد محددة، أو كتب مخصوصة، ولَم يهتم بحيازة الطالب للملَكات، والتي أكثرها لا يحرز إلا مع الأوقات والأزمنة، وكثرة المراس والتجريب.
- ولذا من الخطأ المنهجي أن بعضهم يضبط متون السنتين المحددة، ثم ينطلق معلماً ومدرسا، وربما (مفتيا) قد تزيا بالمشلح والعباءة...! معتقدا أن الحفظ كافٍ للتدريس، وكاف للإفتاء، وكاف للتأليف.!
- وفِي هذا المعنى الاستراتيجي لإدارة العلم تتجلّى معاني الصبر والأناة ، والإصرار والاستكمال، والتدرج والقطرات، والمواصلة والممارسات ، فالعلم قطرة قطرة، لا أكل بالجملة، وجمع بالسرعة ..! وفِي الحديث الصحيح (ومن يتصبّر يُصبّره الله).
- والعلم المدروك مع الأيام والليالي ينفي عن التلامذة صفات الاستعجال والاغترار، وسرعة الاستذكار بلا تركيز ، والتي ما تكون غالبا جناية على التلاميذ والحياة العلمية.
- وفِي تطلاب الأسلاف، العلمَ على شيوخهم وأكابرهم السنوات الطوال، تصل إلى عقود، مما يؤكد هذه القضية، وأن الاستدامة العلمية خير ولو طالت، وأن الحلول السريعة في العلم غير منتجة..! قال مالك رحمه الله " كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة ، يتعلم منه".
- وتبقى قضية الأيام والليالي مع العلماء بعد تأهلهم، فيؤسسون الدروس بلا انقطاع، ويواصلون بلا ملل، ولو لم يحضر إلا القلائل، فإن صبرهم تمكين وترسيخ، ونظيرهم الكتاب والمؤلفون، فلا تنضج أقلامهم إلا بعد مراس طويل، وتدريب مديد.
- ولعل طلابنا الجدد، وشبابنا الزهر، ينتفعون من هذه النصيحة الجوهرية، ويدركون أن العلم لا يحصل في دورة يتيمة، ولا مجلد وحيد، أو سفر فريد، أو انقطاع شهري عزيز.! بل لابد له من صبر وطول سفر، وجهاد مع الأيام والدهر، وإصرار في كل مراحل العمر، والله الموفق.