سامى جعفر يكتب: اسألوا الشهيد.. لماذا تمسك بالسلاح لآخر لحظة؟
لو استطعت سؤال الشهيد وكانت هناك وسيلة ليجيبك، لقال أشياءً كثيرة، ليس عن الموت، أو الألم أو مشاعر الفقد، لكنه سيحكى عن جمال الحياة والسعادة والعطاء والتضحية.
الشهداء ليسوا موتى ولكنهم أكثر الأحياء حياة، فمن يتقدم للموت حتى يواصل الآخرون معيشتهم فى أمان، لا يمكن أن يغيّبهم النسيان.. ولن يبقى الشهيد حياً فى الذاكرة لمجرد وضع اسمه على مبنى أو شارع أو إقامة نصب تذكارى له، لأنه ليس كلمة عابرة، وإنما تأثير يسرى فى الضمائر.
لو تم تسجيل الشهداء الذين قدمتهم مصر فى حياتها الطويلة الضاربة فى جذور التاريخ، من أجل عقيدتهم ووطنهم لتحول نهر النيل إلى موجات من الدم المقدس النابض بالمحبة، حب الحياة والبشر جميعاً، لأن الشهيد لا يعرف كراهية أحد، فما بالك بشاب يعرف أن الموت خلف تل أو مختفٍ فى حقيبة يحملها إرهابى على ظهره أو فى عبوة ناسفة ترقد ببراءة على الأرض فيسرع لاختطاف الموت الكامن فيهم ويبتلعه ويختفى معه.
الشهداء فى مصر، أول بلد عرفت ووضعت معنى للسعادة والفرح، كلهم متشابهون لا فرق بين عادل العدوى وأحمد المنسى، وبقية الأبطال الذين لم يخفهم الموت فى مواجهة الأشرار عشاق الدم وكارهى الإنسانية، إذ كانوا يواصلون التصدى للإرهابيين مهما اخترقت الرصاصات أجسادهم ولا يزال لديهم قدرة على حمل السلاح.
منذ أيام قليلة، استشهد 16 من أفراد القوات المسلحة، منهم ضابط والبقية من المجندين الذين كان أمامهم أيام قليلة وتنتهى مدة خدمتهم فى القوات المسلحة، ولو فكر أحدهم فى الهروب وترك الكمين المكلف بحمايته، لبقى على قيد الحياة، ولكنهم تمسكوا بالموقع ورفضوا مغادرته وتركه للإرهابيين لأنهم يعرفون معنى آخر للبقاء، وحقيقة أخرى للحياة.
الشهداء الـ16 أكبرهم ضابط لا يتجاوز الـ26 عاماً، أما البقية فمن المجندين وأصغر من قائدهم بسنوات قليلة وملامحهم التى التقطتها الكاميرا لصورهم التذكارية قبل انتهاء خدمتهم تدعو للبهجة وكأنهم فى رحلة وهم بالفعل كانوا فى رحلة على الأرض وعادوا إلى السماء.
وبعد أيام قليلة لحق بأبناء الجيش زملاؤهم فى الشرطة، إذ كانت القوات تبحث بين عشرات الملايين فى القاهرة عن الإرهابيين الذين زرعوا قنبلتين فى ميدان الجيزة، أحد أكثر الميادين ازدحاماً، للقبض عليهم والتوصل من خلالهم إلى غيرهم من أعداء الحياة، وتتبعوا أحدهم بالفعل إلى أحد شوارع منطقة الدرب الأحمر، وهناك حاول الضباط والأفراد القبض عليه ففجر قنبلة كان يحملها على ظهره فاستشهد أمينا شرطة وأصيب ضابطان وحالت أجساد الشهداء دون وقع آخرين، إذ كان الإرهابى الخسيس يمشى فى شارع مزدحم بربات البيوت اللائى يشترين «عيش الفينو» لأبنائهن التلاميذ، وآخرون عائدون من أعمالهم وهكذا الجميع يسعون إلى الرزق أو عائدين من رحلة ملاحقته.
هل تظن أن ضباط وأمناء الشرطة كانوا يجهلون قبل انقضاضهم على الإرهابى أنه يحمل الموت على ظهره، بالتأكيد كانوا يعرفون لأن زملاء المتطرف الخسيس فى حوادث سابقة فعلوا نفس فعلته الجبانة، ولكن هؤلاء الشهداء وزملاءهم الذين ينتظرون أن يمن الله عليهم بالشهادة يعرفون بدرجة أكبر أن تأمين حياة أبناء وطنهم سبيل لحياة أخرى أجمل وأفضل عند الله لأنها خالية من الكراهية وقائمة على الحب.
الفراق صعب بالتأكيد، ويصيب قلوب الباقين فى الحياة بغصة لا شفاء منها، أعرفها جيداً لأننى لم أنس زميلى الحسينى أبو ضيف، الذى قتله الإرهابيون الإخوان، قبل سنوات أمام قصر الاتحادية، وقنصوه أثناء وجوده وسط المتظاهرين ضد الإعلان الدستورى الذى أصدره محمد مرسى، الذى شوه تاريخ مصر بوجود اسمه فى قائمة من تولوا حكمها.
ولم يكتف الإخوان بقتل الحسينى، أحد أبناء الصاعقة عندما كان مجنداً فى الجيش، برصاصة فى رأسه مزقت خلايا مخه وجعلت وفاته أمراً مؤكداً من اللحظة الأولى لسقوطه، ولكنهم حاولوا تشويه سيرته بالإصرار على نشر أكاذيبهم بأنه كان موجوداً وسطهم، ولا يزالون يكررون هذا الافتراء، كلما جاءت الفرصة، لأنهم يعرفون أن الكذب المتكرر يعيش أحياناً كثيرة أكثر من الحقيقة.
الحسينى لمن لا يعرفه كان ناصرياً متعصباً، ومعارضاً حاسماً قبل ثورة 25 يناير وبعدها، ولم يتراجع سوى أفكار قليلة، منها خرافة أن جماعة الإخوان، جزء من الجماعة الوطنية، إذ عرف وكتب أنهم فاسدون من أصغر عضو فيهم إلى مرشدهم العام مروراً بمحمد مرسى الذى جعلوه رئيساً لمصر عدواناً وظلماً، كتب بنفسه عن القرار الجمهورى الذى أصدره الأخير فى أيام حكمه الأولى بالعفو عن شقيق زوجته، رغم إدانته بجريمة اختلاس.
الحسينى، رحل ولا يزال باقياً، نشعر بالحزن لأنه لم يعد يكتب ويجلس فى المقاهى ويساند زملاءه، ويدخل فى مناقشات طويلة عن أوضاع وطنه وأحوال السياسيين.. وهو الشعور نفسه الذى يصيب كل أسرة شهيد، ولكننا جميعاً نعرف أيضاً أنه لولا هذا الدم، لما استمرت حياتنا ولكان حالنا أسوأ بكثير من الكوابيس التى تطاردنا، ولأصبحنا أسرى الخراب الذى كان سيحل على هذا البلد مع الإرهابيين.