الدكتور أحمد أبو رحيل يكتب: الوهم الذي نسعى لتحقيقه!
فى بداية مقالتى أدعو السيد القارئ الى أخذ قسط من الصبر والتحلى به لمدة ليست بالكثيرة، وأن يتروى ،ولاينزعج ولا يتعصب.
فأنا أعلم أن من أول وهلة يلاحظ فيها القارئ العنوان ،يتسائل كيف يكون وهم ؟! وكيف نسعى لتحقيقه؟!
حيث أن مما لاشك فيه إننا جميعا ً أقصد جميع البشر نسعى ونبحث عن الراحة والهدوء والسكون والركون، وعدم التنازع مع الأخر، وعدم الرغبة في التفكير من الأساس في الأمور التي تعمل على إزعاجنا.
ولكن فى حقيقة الأمر هذا مايسمى "بالوهم الذى نحن نسعى لتحقيقه"، فليست الأمنيات سهلة التحقيق ،بل وليس من الممكن تحقيقها ،فالحياة التى نحياها تفرض علينا التخلى عن الهدوء والسكون ،وان نتجه إلى التنازع والسرعة وعدم التوقف.
ويؤكد على ذلك الحقيقة البروفسير "كارفر " حيث يقول أن التنازع البشرى له أربعة أنواع:
النوع الأول: وهو أوطأ انواع التنازع أى أعنفها وأشدها وأقربها إلى الطبيعة الحيوانية الاولى،ففيه تكون للقوة البدنية المكان الاول حيث يعتمد الفرد فيه على القوة لتحطيم خصمه أو ايذائه ،وهذا النوع يتخذ صوراً شتى منها الحرب والمبارزة والمشاتمة والنهب والسلب والاغتصاب ونحو ذلك.
ويأتى من بعد ذلك النوع الثانى الذى يدخل فيه شئ من الرؤية واستخدام الذكاء ،وهو إذن أرقى فى سلم التطور من النوع الاول ،وهو يتخذ شكل السرقة والاحتيال أو الغش أو ما الى ذلك من أمور تمثل التنازع البشرى من وراء ستار.
أما النوع الثالث من التنازع البشرى فهو الذى يكاد اليوم أن يسود العالم المتحضر ،ويتخذ أشكالا متنوعة ،فهو بين الرجل والمرأة ،وبين الاحزاب السياسية التى تتخذ أشكالاّ من الحملات الانتخابية والمؤتمرات الحزبية ،وهو بين الشركات التجارية متخذاَ شكل الدعاية والاعلانات التجارية ،وبين أصحاب الدعاوى يتخذ شكل المحاكمات التى يتجادل فيها المحامون ،وبين الطوائف السياسية يتخذ شكل المحسوبية والوساطة والمحاباة.
أما النوع الرابع وهو النوع المنتج الذى نأمل أن يسود العالم فى يوم من الايام ،وهويتمثل فى المنافسة العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية على أساس هادئ لاتحاقد فيه ولا تناقض.
ونحن نرى حتى النوع الرابع رغم سموه الاانه به تنازع بين البشر،ففى واقع الامر والظاهر أن الانسان مجبول على التنازع فى صميم تكوينه فإذا قل التنازع الفعلى فى محيطه لجأ إلى اصطناع تنازع وهمى ليروح به عن نفسه!
ويتضح ذلك عندما نجلس ونحن مطمئنون فى مقاعدنا لمشاهدة مباراة ،ثم بعد فترة من الوقت نشاهد المباراة ونتحمس لها ،ونشعر بأننا داخلون فيها ،او نشاهد فليما سينمائياً فيه مطاردة ومصارعة أو حرب مريرة فنفرح به ،ويشعر الانسان بشئ من الترويح والتخفيف عن النفس.
وعندما لا نجد هذا النوع من التنازع سواء فى المباراة او فى الفيلم نفقد اللذة فيهما ولا تميل النفس إلى مشاهدتهما.
والانسان على اية حال لايستطيع أن يتخلص من نزعة التنازع ،حيث يقول "كارفر"ان التنازع صفة أساسية فى الطبيعة البشرية ،وحتى التعاون الذى نسعى الى تحقيقه ماهو الا صورة من صور التنازع ،فالانسان يتعاون مع بعض الناس لكى يكون أقدر على التنازع ضد البعض الأخر.
فالانسان وفق تركبيته الشخصية اساساً بها تنازع وتناحر فدائما مايقع الشخص بين طبيعة النفس البشرية التى غالباً ماتأمره بالسوء، والضمير الانسانى الذى ينادى دائما بالتحلى بالقيم والاخلاق الكريمة، والملاحظ ان الانسان لا يتخلى عن التنازع وانما ينتقل من نوع الى نوع اخر متقدم عنه.
فيشير المفكر "علي الوردي" أن الرجل فيما سبق كان يسبى المرأة أو يختطفها ،ثم أخذ بعد ذلك يشتريها بماله أو بجاهه أو بأخاديعه ،ثم صار الان يغازلها ويقول لها "أموت فى هواك" وهو فى الواقع يريد أن ينتزعها لنفسه ويتلذذ بها وينالها لنفسه دون الأخرين.
والحقيقة أن العالم المتمدن يميل اليوم الى تقليل الانواع الواطئة اى العنيفة من التنازع الاجتماعى ،حيث يتحول الى الانواع الاكثر تقدما من التنازع ،ونلاحظ ان كل امة من الامم الراقية، تقل يها نسبة القتل والنهب والاغتصاب ،الا انه مازال التنازع موجود فيها ولكن بشكله الراقى.
وفى النهاية يجب ان نؤكد على أن الحياة الاجتماعية ليست الا صراعا متواصلا بين المصالح الخاصة كما يتصارع التجار ويتنافسون ،حيث أن الكل يسعى وراء ذاته وصحيح أن هذا التنازع له مكاسبه وهى تحقيق الهدف والوصول الى الحلم المنال تحقيقه،ولكن تكاليفه باهظة الثمن حيث تزهق الانفس وقد تسيل الدماء ،وتحترق الافئدة ،ويجب أن يعلم الجميع ان الحياة لاتعطى شئ من غير ثمن.
ومن هنا جاءت الاديان السماوية والشرعية الغراء التى تدعو الى التعاون ومواجهة النفس لانها اكثر معرفة بطبيعة الانسان فنهت عن التنازع العنيف الذى يؤدى الى قتل ودمار وانهاء الحياة، ولكن شجعت على التنافس البناء فى قوله تعالى "وفى ذلك فليتنافس المتنافسون".
وفى الختام الحياة ليست طويلة كي نُجَرّب كُلَّ شيء، ولا تُعتبر قصيرةً لنتذكّر كُلَّ شيء، ولكنها جميلة إذا ما أيقَنّا أنها لا تساوي شيئاً. الحياة ما هيَ إلا قصةٌ صغيرة يجب أن نتعلم منها كي نعيشَ سعيدين،وحين تضيق عليك الدنيا فأعلم أن الله متى يوسع عليك ،فأسكن الى الله وثق فيه.
واعلم ان ليس فى هذه الدنيا شئ يمكن أن يتلذذ به الانسان تلذذاً مستمراً،فكل لذة مهما كانت عظيمة تتناقص تدريجياً عند تعاطيها ،وهذا مايعرف فى علم الاقتصاد الحديث بقانون "المنفعة المتناقصة".
فالانسان مخدوع فى ركضة وراء غاية لافائدة منها ،ولذلك يقولون إذا اردت الا تندم على فعل معروف اجعله لوجه الله ،فسوف تأخذ الثواب فيها سواء فعلته اولم تفعله فهناك قانون الاعمال بالنيات، حفظ الله مصر.. حفظ الله القيم الأصيلة ونفع بها المجتمع.