مى سمير تكتب: إيمانويل ماكرون صاحب الوجوه الـ7
كتاب فرنسى يفضح الجوانب المتناقضة فى شخصية رئيس فرنسا
أبوه الروحى فيلسوف فرنسى شهير يجمع الأفكار المتناقضة معاً
فى كتاب «القاتل والشاعر»، الصادر فى 9 يناير بفرنسا، يحاول الصحفيان نيكولاس دوميناخ، وموريس سافران كشف لغز الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، بالإجابة على تساؤلات لاتزال مطروحة بشأنه مثل: ما يحركه؟ ما المعتقدات التى يؤمن بها؟ من أين يأتى بهذه الثقة؟
بحكم عملهم، يعرف كل من دوميناخ وسافران، كواليس الحكم فى فرنسا، وهما على دراية بكل العاملين فى قصر الإليزيه والدائرة المحيطة بـ«ماكرون»، ولذا قاما عبر العديد من اللقاءات الصحفية، بالبحث عن مدى التزام ماكرون باليسار، وما الذى فعله فى السنوات التى كان فيها قريباً من الرئيس السابق فرانسوا هولاند الذى أدخله عالم السياسة، وعلاقته بالفيلسوف بول ريكور، وزوجته بالطبع، حيث يكشف الكتاب، أن ماكرون له جوانب متعددة، واثق من نفسه ومقتنع بأنه قادر على تحريك الأشياء بمفرده.
1- رجل هولاند الخائن
يكشف الكتاب كواليس صعود ماكرون إلى أعلى منصب تنفيذى فى فرنسا، حيث يرسم ملامح تجمع بين الانتهازية من جهة والطموح السياسى المشروع من جهة أخرى.
فى شبابه، كان انتماء ماكرون السياسى مرتبطا لحد كبير بخطواته السياسية أكثر من إيمانه بأفكار معينة سواء يمينا أو يسارا، حيث نشط فى حركة المواطنين والجمهوريين لمدة عامين، لكنه لم يصبح عضواً فيها، كما كان عضوا فى الحزب الاشتراكى منذ أن كان فى الـ24 عاماً، لكنه لم يجدد اشتراكه فى الحزب سوى من 2006 لـ2009، كما كان مشواره السياسى معتمداً بشكل أساسى على علاقاته الشخصية وقدرته على إيقاع الآخرين فى شباك جاذبيته الشخصية. التقى ماكرون مع الرئيس الفرنسى السابق فرانسوا هولاند من خلال سفير بريطانيا السابق فى المملكة المتحدة جان بيير جوييه فى عام 2006، ورغم انعدام خبرته السياسية أقنع هولاند بقدراته وانضم لفريق عمله فى عام 2010، ثم أصبح نائب الأمين العام فى قصر الإليزيه، وهو منصب كبير فى طاقم الرئيس هولاند، وفى 10 يونيو 2014، تم الإعلان عن استقالة ماكرون من منصبه، وقيل إنه أصيب بخيبة أمل لعدم إشراكه فى أول حكومة بقيادة مانويل فالس، ولكن ماكرون أعلن أنه غادر لتأسيس شركة استشارية مالية خاصة به. وتم توظيف ماكرون بعد ذلك بوقت قصير فى جامعة برلين بمساعدة رجل الأعمال، آلان مينك، المعروف بعلاقاته الواسعة مع رجال السياسة الفرنسية من مختلف التيارات، حيث عمل كمستشار للرئيس الفرنسى الأسبق نيكولا ساركوزى ولإدوار بالادور، رئيس الوزراء الفرنسى فى عهد فرانسوا ميتران.
عاد ماكرون مرة أخرى للمشهد السياسى بعد أن تم تعيينه كوزير للاقتصاد والمالية فى حكومة فالس الثانية فى 26 أغسطس 2014، اشتهر ماكرون خلال هذه الفترة بسبب «قانون ماكرون» الذى يهدف لإعادة تنشيط الاقتصاد الفرنسى.
وأصبح ماكرون معروفاً لأول مرة للفرنسيين بعد ظهوره فى البرنامج التليفزيونى الفرنسى «كلمات وحقائق» فى مارس 2015، خلال تلك الفترة زادت التوترات حول مسألة ولائه لحكومة فالس وهولاند نفسه عندما رفض هولاند اقتراحا بقانون وضعه ماكرون، بعنوان «ماكرون 2»، ويهدف لجعل الاقتصاد الفرنسى يتنافس مع الاقتصاديات الكبرى.
ووسط التوترات وتدهور العلاقات مع الحكومة الفرنسية فى ذلك الوقت، أسس ماكرون حزبا سياسيا مستقلا وهو «إلى الأمام» فى 2016، تمتعت هذه الحركة السياسية الوليدة بتغطية إعلامية ضخمة، مع مولدها، ودعمها العديد من أعضاء البرلمان الأوروبى فيما هاجم أغلب أعضاء الحزب الاشتراكى حزب ماكرون بما فى ذلك مانويل فالس.
كان هناك إحساس عام فى الحزب الاشتراكي، أن ماكرون خان الحزب، لكن ماكرون كان يسعى وراء حلمه بتغيير المشهد السياسى وكان يعلم أن التغيير الحقيقى لن يأتى من الحزب الاشتراكى. ويوضح موريس سافران، أن هولاند كان يحب ماكرون مثل ابنه تماماً، وكانت هناك علاقة حقيقية بينهما، ولذا حذر العديد من الشخصيات السياسية الرئيس السابق من ماكرون ومن طموحه السياسي، ولكن هولاند لم يستمع لهم.
وبحسب الكتاب، كان من الواضح أن هولاند الذى كان شخصية بارزة فى صعود ماكرون ووفر له الحماية والدعم، كان أيضاً أحد ضحايا الأخير حيث أصيب بانهيار عصبى عندما قرر ماكرون الابتعاد عنه وشق طريقه بشكل منفصل عن الحزب الاشتراكى. ولكن ماكرون لم يخدع هولاند، ولكنه رأى ما يجرى فى فرنسا وقرر أن يغير ما يحدث حتى لو كان هذا يعنى التخلى عن الرجل الذى فتح له باب العمل السياسي، وحسب سافران: « أدرك ماكرون تماماً قبل عام من ترشحه أن البلاد دمرت بالكامل على المستوى السياسي»، وعلى نحو مثير للدهشة نجح ماكرون فى الفوز بالانتخابات ودخل قصر الإليزيه وبداخله شعور بالزهو والقوة، ولكن الشهور الأولى من حكمه أثبتت أن الثقة فى النفس قد تصيب صاحبها أحياناً بالعمى.
2- الرئيس ذو الوجهين
فى ديسمبر 2017، عندما اعترف ماكرون قائلاً: «لحسن الحظ، وصلت إلى عتبة عدم الحساسية.. هناك أشياء لا أشعر بها بعد الآن، ولا أسمعها بعد الآن، ولا أستمع إليها بعد الآن «، كان لا يزال فى قمة شعبيته، ولم يتخيل أنه بعد سنة فقط سيتم قطع الرابط الذى كان يملكه مع مواطنيه وأن حركة «السترات الصفراء» ستطلب استقالته فى مظاهرات شهدتها جميع أنحاء فرنسا، وأنهم سيذهبون فى بعض الأحيان لتنظيم تمثيل لقطع رأسه. فى ذلك الوقت كان الصحفيان نيكولاس دوميناخ وموريس سافران يتمتعان بثقة الرئيس الفرنسى وعلى مقربة من صناعة القرار، فى كتابهما عنه أرادا الكشف عن وجهيه كما يقول هو عن نفسه.
بالكاد تم ذكر «السترات الصفراء» فى الكتاب الذى أكمله المؤلفون فى نهاية شهر أكتوبر، لكننا نقرأ، على الصفحات، سوء الفهم أولاً، ثم خيبة الأمل ثانياً، بين رئيس الدولة والفرنسيين، كما نتعرف على كواليس الأزمة التى يمر بها اليوم.
حسب الكتاب، يعتقد ماكرون أنه لا يمكن تدمير مكانته فى قلوب الفرنسيين، لأنهم انتخبوه رغم كل الصعاب، ولذا لم يستمع إلى من حذروه وسط اشتعال المظاهرات ضد إصلاحاته الاقتصادية العام الماضي، وفى تلك المرحلة لم يكن ماكرون يهتم بما يقال فى الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعى.
يستعرض الكتاب الفشل الذى يصادف المقربين من ماكرون، لأنه لا يستمع لكثير من نصائحهم، ومنها ضرورة استبدال نيكولاس هولت أو جيرار كولومب فى وزارات التحول البيئى والداخلية، حيث استقال هؤلاء فى 28 أغسطس 2018، واستقال هولوت من وزارة البيئة خلال مقابلة مباشرة على إذاعة فرانس إنتر، لشعوره بالإحباط وهو ما شكل ضربة كبيرة لماكرون وتشكيكاً فى مصداقيته بشأن قضايا البيئة.
أما فيما يتعلق بكولومب الذى كان واحداً من أول حلفاء ماكرون المقربين وأنصاره من بين الاشتراكيين البارزين قبيل انتخابات 2017 الرئاسية، إلا أن استقالته كانت واحدة من أكثر اللحظات حرجاً فى رئاسة ماكرون.
فى المقابل فإن شخصية ماكرون الواثقة من نفسها والقادرة على إقناع الآخرين بوجهة نظرها كانت سبباً رئيسياً فى جاذبيتها لدى كثير من صناع السياسة الفرنسية، وهذه القدرة على اتخاذ قرار والتشبث به أقنعت باريزة خياري، عضو مجلس الشيوخ الاشتراكية، بأن تصبح أحد أنصاره وتقول باريزة خيارى: «الخوف لم يعقه أبداً، لهذا عندما اتخذ قرارا بخوض انتخابات الرئاسة كان من السهل عليه إقناع كثيرين بقدرته على الفوز بالمنصب الأعلى فى فرنسا».
من جانبه يقول فيليب جرانجون المستشار السياسى لـ ماكرون: «ما شدنى من أول يوم، شجاعته الاستثنائية، منها عندما تولى منصب وزير الاقتصاد، ثم ترشحه للانتخابات الرئاسية»، وحسب جرانجون فإن الشجاعة، لا علاقة لها بالثقة، أو الكثير منها عندما يتعلق الأمر بالرئيس الفرنسى الحالى.. «حذرته عدة مرات، بأنه يجب أن يكون لدى الرئيس موازين الحرارة، لكن إيمانويل لايزال شابا ولذلك ستزداد قدرته على تحقيق هذا التوازن بمرور الوقت».
قد تكون شجاعة ماكرون سبباً فى الفوضى التى يمكن أن تسببها بعض الجمل التى يستخدمها مثل «الأموال المجنونة». فى بداية رئاسته انتشر فيديو استخدم فيه عبارة «المال المجنون» لوصف المبلغ الذى تنفقه الدولة على الرعاية الاجتماعية، وأثار هذا المقطع انتقادات واسعة، واعتبره الفرنسيون وصحافتهم دليلًا على احتقاره للفئات الخاضعة للرعاية الاجتماعية ما أصاب مواطنيه بغضب لا يزال مستمراً.
الإصلاحات الاقتصادية التى يريدها ماكرون تحتاجها الدولة الفرنسية بشدة، تثير شجاعته فى تطبيق سياساته الإعجاب ولكن ثقته فى نفسه الزائدة والتى منحته صورة المتعالى كانت سبباً رئيسياً فى رفض الشعب الفرنسى لمثل هذه الإصلاحات.
3- امرأتان فى حياة الرئيس
فى كتاب «القاتل والشاعر»، نعلم أن سيدتين فقط تملكان القدرة على التأثير على ماكرون، زوجته بريجيت، وسيبيث ندياى المستشارة الإعلامية التى تحتل مكانة خاصة لديه.
يبدأ الكتاب مع زوجته بريجيت ماكرون، التى تتمتع بتأثير واسع النفوذ عليه، وبرز دورها بوضوح أثناء الحملة الانتخابية فهى تلعب دور الحبيبة والمستشارة فى نفس الوقت، وفى كواليس حملته كان من الواضح كيف كان ماكرون يطلب نصيحة بريجيت فى كل الأمور، وكان فى نفس الوقت حريصاً على الاطمئنان على مشاعرها والتأكد أنها سعيدة ولايوجد ما يضايقها.
مع زوجته، لدى ماكرون علاقة خاصة ليس فى الحب فقط ولكن أيضاً فى السياسة. أوضحت الصحفية آن نيفات هذا الدور الذى تلعبه السيدة الأولى: بالقول: «إنها امرأة مثيرة للاهتمام وتلعب دوراً مهماً للغاية، أكثر بكثير مما نعتقد».
ويرسم الكتاب صورة جريئة لبريجيت معلمة الدراما التى وقع ماكرون فى حبها وهو لايزال مراهقاً وتزوج منها رغم فارق العمر بينهما والذى يصل لـ24 عاماً ورغم الفترة الصعبة التى تواجهها الحكومة تحافظ بريجيت على المسار الإيجابي، لأن الفرنسيين يحبونها، حيث تتدفق الرسائل الداعمة لـ«ملكة الإليزيه» حسب وصف المؤلفين اللذين يريان أنها متواجدة بشكل مستمر لمساندة زوجها وتقديم الدعم له.
ترى السيدة الأولى أن ماكرون أصبح أكثر عزلة أمام حركة السترات الصفراء، ولهذا ترغب فى إجراء تغييرات داخل قصر الإليزيه ورؤية وجوه جديدة قرب الرئيس، ولكن العائق أمامها لإقناع زوجها بضرورة ذلك صعب للغاية لأن ماركون عنيد ومقتنع بأنه دائماً على حق.
كما تلعب المستشارة الصحفية سيبيث ندياى دوراً محورياً فى حياة ماكرون سواء أثناء الحملة أو فى قصر الإليزيه، وتقول سيبيث، 40 عاماً، إنها تشعر نحو الرئيس بمشاعر أمومة، حيث تهتم برعايته والوقوف بجواره فى وقت تدرك فيه أن موجة الانتقادات ترتفع بشدة ضد سياسته. بين بريجيت وسيبيث يجد ماكرون نفسه بين سيدتين لديهما استعداد للهجوم على أى شخص يفكر فى مضايقته ويقدمان المشورة له ويرفعان روحه المعنوية فى مواجهة الانتقادات.
4- الرئيس والفيلسوف
أما أكثر الشخصيات تأثيرا فى الرئيس الفرنسي، فهو بالتأكيد الفيلسوف الفرنسى بول ريكور، فبينما كان لا يزال ماكرون طالبا، كان بمثابة مساعد لهذا الكاتب فى السنوات الأخيرة من حياته، حيث دخل ماكرون دائرة المقربين لواحد من المفكرين العظماء فى القرن العشرين، وبفضل أحد معلميه السابقين، فرانسوا دوس، تمكن ماكرون من العمل مع ريكور، لاستكمال كتابة مذكراته حيث تم تكليف ماكرون بمراجعة وإكمال ملاحظات الكاتب، وتطورت العلاقة ليصبح ريكور الأب الروحى لماكرون خصوصاً أن الأخير كان عمره 22 عاماً بينما ريكور 86 عاماً.
وكتب ريكور فى مجموعة واسعة من المواضيع، بما فى ذلك القانون، وعلم الجمال، واللغة، والتحليل النفسي، والأخلاق، وكان معروفًا بالحفاظ على نهج عملى فى حين يحاول فلاسفة آخرون التوصل لصيغ محددة للوفاء بجميع المواقف، فإن ريكور يسعى دائماً لتحقيق التوازن والتوفيق بين مختلف وجهات النظر المتطرفة، ويظهر تأثيره على ماكرون فى منهجه العملى للسياسة، بمحاولة خلق تيار ثالث يجمع اليمين واليسار معاً. ومن بين العلامات الواضحة لنفوذ ريكور، هو عبارة يستخدمها ماكرون فى كثير من الأحيان: «وفى نفس الوقت»، إذ يستخدمها ماكرون كثيراً عندما يعلن عن خطط للقيام بأمرين يبدو أنهما غير متوافقين مثل تحرير سوق العمل وحماية أولئك الذين يشغلون وظائف غير آمنة، ويرى دان ستافر، وهو أستاذ علم اللاهوت فى جامعة هاردن سيمونز، أن محاولات ماكرون للقيام بأمرين متناقضين فى وقت واحد تتوافق لحد كبير مع نظرة ريكور.
وهكذا يجمع ماكرون بين كثير من الوجوه، فهو سياسى شجاع واثق فى نفسه وعنيد ومغرور على نحو يثير الغضب، هو رومانسى وفيلسوف ولكنه قاس وانتهازى.