د. نصار عبدالله يكتب: الرواد المنسيون فى معرض القاهرة للكتاب
على مدى نصف القرن ينعقد معرض القاهرة الدولى للكتاب حيث يفتح أبوابه لأصحاب الدعوات الخاصة فى يوم الأربعاء الأخير من شهر يناير، وبعدها يفتح أبوابه للجمهور فى اليوم التالى (الخميس) الذى يوافق عادة يوم الرابع أو الخامس والعشرين من الشهر ذاته، وعلى مدى تلك الأعوام الخمسين التى تمثل عمر المعرض حتى الآن لم يفكر أحد إلا لماما، أوفى حالات نادرة جدا فى تكريم الرواد الحقيقيين للمعرض.
أولئك الأبطال المجهولون الذين كان لهم الفضل فى إنشائه واستمراريته، وأهم من ذلك فى تحوله من مجرد معرض يقتصر على عرض الكتب وبيعها، إلى مهرجان ثقافى وتنويرى شامل يقام فيه من الفعاليات ما يندر أن تجد له مثيلا فى أى معرض آخر للكتاب، ربما على مستوى العالم بأكمله!. لا أنكر دور وزراء الثقافة ولا رؤساء الهيئة العامة للكتاب، فلهؤلاء بطبيعة الحال دور لا يمكن أن نجحده فيما وصل المعرض إليه، ولكننى أقصد بشكل خاص أولئك الأبطال المجهولون الذين قام كل شىء على أكتافهم والذين لولاهم لما كان المعرض بالصورة التى نراها عليها الآن، صحيح أنه بهم أو بدونهم كان سيستمر فى الانعقاد عاما بعد عام، لكن من المؤكد أن استمراره بدون جهدهم كان سيغدو مجرد مناسبة روتينية تجرى بطريقة تسديد خانات ينبغى أن تسدد كما هى الحال فى أى أداء يقوم به الموظفون البيروقراطيون فى الجهاز الحكومى المصرى . فالحقيقة التى يعرفها كل من قدر له أن يعاصر تاريخ هذا المعرض وأن يقترب من رواده ـ وكاتب هذه السطور قد شاء له قدره أن يكون واحدا من هؤلاء القريبين منهم. الحقيقة أن أغلب هؤلاء إن لم يكن جميعهم كانوا يقومون بعملهم بحب شديد يصل إلى مستوى العشق، وكأن كل واحد منهم يؤدى مشروعه الإبداعى الخاص الذى تتحقق به دون سواه ذاته الإنسانية. يستوى فى ذلك واضعو البرامج ومنفذوها، ومقدمواأمسياتها، والمشاركون فيها، والقائمون بالدعاية والترويج لها ...إلخ، وأول وأهم هؤلاء كان هو الشاعر سعد درويش صاحب ديوان : «الوجه الغائب « الذى كان مستشارا للنشر بالهيئة العامة والذى كانت تربطه بى وبالكثيرين من شعراء تلك الحقبة صلات عميقة من الصداقة والمودة، !!ـ وقد كان الأستاذ سعد هو أول من اقترح على رئيس الهيئة: «الدكتور عزالدين إسماعيل» فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى أن تقام أمسيات شعرية على هامش المعرض يشارك فيها كبار الشعراء المصريين، كما يشارك فيها ضيوف من شعراء العالم العربى إن أمكن، واقتنع الدكتور عزالدين بالفكرة وتحمس لها حماسا شديدا، فقد كان هو نفسه (أى الدكتورعز) شاعرا وكاتبا للمسرحيات الشعرية، صحيح أنه لم يكن شاعرا من شعراء الطبقة الأولى، ولا كاتبا مسرحيا ساطعًا، لكن من المؤكد أنه كان يمتلك ذائقة نقدية نادرة، وهو ما جعله يتوقف عن كتابة الشعر والمسرح ويتفرغ لكتابة النقد، وهكذا بدأت الفعاليات الثقافية للمعرض على يد الأستاذ سعد درويش الذى عهد إليه الدكتور عزالدين إسماعيل بإعداد برنامج الأمسيات وإدارتها وتقديمها، كما خول له أن يختار من بين موظفى الهيئة من يعاونه فى هذه المهمة، وقد اختار الأستاذ وجهين من الوجوه التى توسم فيها عشقها للشعر والفن والثقافة، وكان هذان الوجهان هما البطلين المجهولين اللذين يعملان من وراء الكواليس دون أن يظهر إسماهما للنور، وأعنى بهما الفنان : نجيب رشدى (وهو نفس الممثل المعروف الذى لعب عددا كبيرا من الأدوار الثانوية فى عدد من المسلسلات التليفزيونية الشهيرة) وإلى جانب نجيب رشدى كانت زوجته السيدة نادية رمسيس التى كانت شعلة من الذكاء والنشاط المتوقد، وكان تفانيهما كلاهما فى العمل موضع تقدير من الرئيس السابق للهيئة الشاعر صلاح عبدالصبور مما جعله يقوم بترقيتهما ترقية استثنائية وهو ما أوغر صدر الشاعر كمال إسماعيل الذى ذهب إلى مكتب صلاح عبدالصبور ليقول له: أنت تتحيز للإخوة المسيحيين على حساب من هو أجدر منهم بالترقية (يقصد نفسه)، وأجابه صلاح عبدالصبور: أجل أنا أتحيز للمسيحيين وسوف أطلق على الهيئة: «الهيئة العامة للكتاب المقدس!!» واللى مش عاجبه يشرب من البحر.
nassarabdalla@ gmail.com