أحمد عبد الوهاب يكتب: "مسحوق غسيل"

ركن القراء

أحمد عبد الوهاب
أحمد عبد الوهاب


اختلف صديقان على قراءة رقم (6/9) هل هو 6 أم 9. رآه أحدهما من أعلى معدولا فزعم أنه الرقم تسعة، ورآه الآخر من أسفل معدولا فزعم بأنه الرقم ستة. وكل منهما محق من منظوره، صدق زعمه وظنه أم لا!
بدأت المشكلة حين دافع كل منهما عن رأيه راميًا الآخر ابتداء بالخطأ ثم ثانيًا بالجهل وأخيرًا بالكذب والتضليل، وازدادت المشكلة حين نادى كل واحد أصدقاءه يحكي لهم قصة ضلال الآخر ، وبدون التأكد مما قيل نشأ لكل واحد منهما مريدون ومؤيدون، ينادون بصدقه وحكمته وصوابه وضلال وجهل وتطرف من سواه، ومع الوقت اتسعت الخصومة.

ربما قرأنا القصة السابقة على الإنترنت في جزئها الأول لكن الجديد والخطير هو اتساع دائرة الخلاف بأنصار وأطراف خارجية، ليس لها في الأمر لا ناقة ولا جمل. وهنا تكمن خطورة المشكلة إذ ليس من الذكاء أبدا أن تجعل غيرك يقحمك في خصومته مع الآخرين. الأمر يبدأ باستماعك له أكثر من اللازم، ثم بعد فترة تجد نفسك تتأثر بكلامه وأفكاره، فتنقل وتردد دون وعي قناعاته، وليس ما أنت مقتنع به، فتخرج عن حياديتك وموضوعيتك، ومع الوقت تتحول إلى شريك وخصم لمخالفيه. ليس الأمر هكذا فحسب، بل يتدرج الأمر ليسيطر هذا الشخص على تفكيرك تماما، ويقوم بعملية "غسيل مخ" لك، يغسل مخك ب "مسحوق غسيل" خاص، لن تجد له إعلانات مرئية ولا مقروءة، لكن نتائجه ستكون مفجعة ، وستتفاجأ برسالة غير مكتوبة: 
"مرحبًا بك، تمت عملية غسيل المخ بنجاح". 
حينها ستصير أنت ملكا له، فلا يسمح لك بالاقتراب من أحد غيره إلا من خلاله، ولا يسمح لأحد غيره بالاقتراب منك أكثر مما يسمح هو به . لا يعطيك أصلا فرصة للتفكير إلا فيما يتماشى مع اتجاهاته وحده. سيطرح عليك السؤال ويبادرك بالإجابة، أقصد الإجابة التي يجب عليك أن تقولها، أو التي يُحب أن يسمعها منك. كم هو كريم حقا معك! لا يريد أن يجهدك في التفكير. لكن الحق يقال أنه بين الحين والآخر لا يلبث أن يظهر لك كم يحبك! وكم يحرص على مصلحتك! ولم لا؟! ألم تعد في نظره واحدًا من رجالته، وقطعة يحركها كيفما يشاء. ألم تنادي بما ينادي به، وأنت الذي ربما كنت تنادي قبله بالحرية وتقبل الآخر حتى وإن اختلفتما، بل ربما كنت تندد بمواقف مماثلة لما يفعل من تنمر واضطهاد لمن حوله. لكنك للأسف صرت الآن فريسة له. وبين الحين والآخر سيمنحك جرعة من مسحوق الغسيل الخاص بك. جرعة لازمة لتجديد الولاء، جرعة لازمة لتصبح نتائج الغسيل اكثر نصاعةً وإشراقًا.
لكن كيف حدث هذا وأنت المثقف المتعلم؟ 
الأمر للأسف لا يحدث فجأة ولكنه يتدرج، وكلنا كبشر لا نخلو من نقاط ضعف، ولكل نقطة ضعف مسحوق خاص بها لتتم عملية الغسيل بنجاح، فهذا مسحوقه مغلف بالضغط النفسي، وهذا مسحوقه بالضغط المادّي، وذاك بالضغط الجسدي، وآخر عنيد ثغراته ليست بالكثيرة فله مسحوق غسيل خاص أكثر تركيزًا " 3 × ١" لتحقيق نتيجة أسرع.

ربما يبدو الأمر هينا على مستوى الأفراد، لكن الأمر تزداد خطورته وتتسع على مستوى الجماعات والأمم، لأنه وبنفس المبدأ ،ولأسباب أخرى قطعًا، ظهرت جماعات وحركات متطرفة مثل "داعش" وأخواتها في الشرق، ومثل جماعة "جيش مقاومة الرب" في إفريقيا التي أسسها جوزيف كوني في أوغندا سنة 1987 وينتشر إرهابها الفكري والجسدي من أوغندا إلى أجزاء الكونغو، وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان. بل لم تخل أوروبا حتى من هذه الأفكار والأيديولوجيات فمثلا النازية التي انتشرت في المانيا إبان حكم هتلر وكادت تغزو العالم بأكملها بفكرها العنصري....

وحتى في مجال الرياضة لم يخلو الأمر من عمليات غسيل المخ الممنهج حيث ظهرت مجموعات اﻷلتراس بداية كظاهرة تشجعية جميلة، لكن ما لبست أن أضحت مجالا للعنف والتعصب الجماعي بدون وعي، ولا يخل الأمر قطعا من خلط السياسة بالرياضة مثلها مثل الكثير من عمليات الخلط المقترنة بالسياسة. 

ما الحل إذن ياصديقي، وهل إلى خروج من سبيل؟ 

يا صديقي الأمر مقلق حقا، لكن لكل داء دواء، طالت المدة أو قصرت، وإذا عرف الداء وجد الدواء..... فقط فكر ..ثم فكر ... ثم فكر...
ارفع من مستواك العلمي والثقافي وانظر إلى الأمر من طرق شتى، فلا يوجد أحد لديه الحقيقة المطلقة، رغم أن الكل يزعم بأن لديه الحقيقة المطلقة.... 

تعلم كيف تقول "لا" ، أو على الأقل لا تقل "نعم" في موضع لا يتصور فيه إلا قول " لا" .... 

تدرب وتعلم كيف تقبل النقد... وتعلم كيف تنتقد الفكرة ثم الفكرة ثم الفكرة ولا تقربن صاحبها دعه وشأنه.... 

واﻷهم من ذلك عدم اﻹنقياد والتّعصب الأعمى لأيّ فكرة تتبنّاها أو يتبناها غيرك فإنه من الثابت يا صديقي أنه لا يوجد ثابت.
"ألا كل شي ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل"