د. رشا سمير تكتب: في مئوية إحسان عبد القدوس..بطلات رواياته يبُحن سرا
لم تكن فاطمة وحدها هى الهزيمة، بل كان للهزيمة ألف وجه آخر، ولم تنفك أمينة تبحث عن حريتها إلا عندما وجدت مبادئها، لم تتمرد مديحة فقط على رجال أحبوها، بل كان تمردها على موروثات سجنتها وأصفاد كبلت أنوثتها.
لم تكن ناهد مجرد فتاة صعبة ومغرورة، بل كانت فيضاً من العناد ممزوجاً بعشق لا يقاوم، لم يكن حُلم علية أن تسابق الزمان لترتدى ملابس النساء وأصباغهن، بل كان العشق فخا وقعت فيه فأضاعت عمرها، لم تكن ماجدة سوى الزوجة التى يتناولها زوجها فى صمت ويخونها فى صخب، لدرجة جعلتها تبحث عن نفس الدواء لتتناوله حتى لو كان الثمن حياتها.
ولم تتذكر سُعاد نفسها إلا عندما حققت كل أحلامها واعتلت قمة النجاح، فأيقنت أن برودة فراشها أنستها يوما أنها امرأة.. هؤلاء هن بطلات روايات العظيم إحسان عبد القدوس، صانع الحُب وبائعه، قناص قلوب النساء وجيفارا حرية المرأة.
1 يناير 2019، هى الذكرى المئوية لكاتب لم يكن يكتب بقلم مداده الحبر، بل كان جراحا يُشرح القلوب ويصف الدواء ويرسم النساء، بعينين كشفت جمالهن وأحلامهن وآلامهن.
لم يكن إحسان عبد القدوس مجرد كاتب أو روائى أو حتى قلم سياسى، بل كان عاشقا ومُلهما وثائرا على كل الأنماط والقوالب وجمود المعايير.
ولد إحسان عبد القدوس فى 1 يناير 1919، مائة عام، وقفت شاهدة على أعمال رائعة وقصص من لحم ودم، نسجت طفولتنا وعشنا معها بين صفحات رواياته، وعلى شاشة السينما لتشكل أجمل أعماله، فكان مُلهما لنا كروائى وقائد ثورات تحرير النساء.
مائة عام على ميلاد كاتب كتب عن العشق وعن الحرية، عن الألم وعن الأمل، عن أحلام النساء وعن كبواتهن، عن العرض والمبدأ والوطن.
1- الدولة الغائبة
فى مئوية الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس لا يسعنى سوى أن أعبر عن امتنانى وتقديرى لقلمه، الذى ألهمنى الخيال الخصب وبعث فى صفحاتى البيضاء الحماس لانتهل من نفس المعين الذى استقى منه شهرته، معين الأدب. رغم سعادتى لأننى استطعت أن أتولى مسئولية إدارة صالون إحسان عبد القدوس الثقافى بنجاح، ويكون لى عظيم الشرف بأن يقترن اسمى الصغير يوما ما باسمه الساطع بحروف من ذهب، ورغم أنه كان لى ولغيرى من الأدباء والكُتاب مُلهما وقدوة أدبية لها قيمة وقامة، إلا أننى اليوم أكتب لأسجل وأعبر عن استيائى من تجاهل الدولة متمثلة فى كل الجهات المعنية بالثقافة لمئوية هذا الكاتب الكبير!
البداية كانت مهرجان القاهرة السينمائى، الذى لم يضع حتى صورة ولا فيلماً تسجيلياً عن كاتب منح السينما بقلمه روايات كانت نبراسا وتاريخا سيظل أبدا هو عنوان الإبداع الفنى وعناوين تربعت على عرش السينما، مثل (أنف وثلاث عيون) (لا أنام) (أرجوك أعطنى هذا الدواء) (الراقصة والسياسى) (النضارة السوداء) (فى بيتنا رجل) (أين عقلى) وغيرها وغيرها.
وها هو شهر يناير يهل علينا، حاملا عاماً جديداً ونحن فى انتظار أن تقوم الدولة متمثلة فى وزارة الثقافة وصُناع السينما بتكريم هذا الكاتب العظيم، وما زلنا أيضا فى انتظار معرض الكتاب فى يوبيله الذهبى، الذى يجب وهذا أضعف الإيمان أن تعتلى صورة الكاتب الراحل لافتاته وكتيباته وسراياه، وأن يتم تكريمه بشكل يليق باسمه ومكانته، وهو فى ظنى ما لا يبدو له أى بادرة تلوح فى الأفق مع الأسف!
أتمنى ألا يُصبح تقاعس المسئولين سببا فى محو تاريخنا الأدبى الكبير، فمصر أنجبت من الكتاب والمبدعين ما يجعلها أمة المثقفين وحضارة الإبداع، ولا يجوز أن نتجاهل تراثنا الأدبى ولا مبدعينا بهذا الشكل المُسىء.
فى مئوية إحسان عبد القدوس، لم تنسه بطلاته، وستظل كلماته عنهن هى خير من يتحدث عنه ويخلد ذكراه.
2- سارة.. قلبى ليس فى جيبى
إنها ليست فى حيرة بين الرجال، باحثة عمن يحبها لشخصها، لا للملايين التى أصبحت لها، إنها فى حيرة مع نفسها هى، فإنها لا تستطيع أن تنسى أنها أصبحت ثرية، وكل عواطفها أصبحت داخل البنوك التى تضم أرصدتها، أصبحت عواطفها مجرد أرقام، تخاف أن يعتدى رجل عليها ويلخبط لها الحساب.
لا تحب إلا العمر الطويل الذى قضته تسعى إلى جمع كل هذه الملايين، إنها هى التى لا تستطيع أن تنتشل نفسها من جيبها لتعيش مع قلبها، كأنه لم يعد لها قلب.
3- مادى.. النضارة السوداء
لم تكن تحس بأى شىء، لا بالخجل ولا بالاشمئزاز ولا بالرغبة أو الرهبة، ولم تدفعها طبيعة تكوينها الجسمانى إلى مجرد التفكير أن لها دنيا خاصة يجب أن تعيش فيها، وبأن العُمر ينقلها من عام إلى عام، وبدأت غريزة الأنثى تضج فى عروقها، حتى التقت به فى أحد الحفلات، فتى إيطالى أفاق يعيش عالة على أبيه.
فهى المرة الأولى التى يطلبها رجل للرقص ويضغط على خصرها وهى ترقص، أحست بالزهو فقد أصبح لها رجل يسعى إليها ويحيطها بالاهتمام، ثم اصطحبها إلى البيت وتناولا بعض الكئوس من الخمر وقامت من بين يديه امرأة!
ومن يومها أصبحت امرأة لكل الرجال، امرأة يتدلى على صدرها الصليب وتخفى ملامحها خلف تلك النظارة السوداء، تبحث عن رجل يروضها ويكبح جماح شهوتها برصانته، حتى التقته، فلم ينجح فى ترويضها، بل نجحت هى فى اعتلاء نقاط ضعفه.
4- فاطمة.. الهزيمة كان اسمها فاطمة
قضت ليلتها مع فهيمة تشرح لها تفاصيل العمل الجديد، وفى الليل خرجت معها إلى الشارع لتنتظر الزبائن وتعلمها كيف تتعامل مع رجال البوليس، تقبض الثمن وتدفع النصف لفهيمة، إنها تريد عملا آخر حتى لو كانت خادمة، فالأسهل أن تتحمل رجلا واحدا، فالرجل الواحد أرحم من كل هذه الأصناف من الرجال التى تمر على جسدها.
وذهبت فاطمة إلى تلك العائلة التى تنتمى إلى إحدى البلاد العربية وبدأت تعمل، إن مرتبها لم يتعد الأربعين جنيها، لكنها لم تنس بيتها، إنها تريد أن تحس أنها ماتت كمصرية، لقد تركت بيتها على شاطئ القناة وهو الآن يتعرض للقصف، هكذا باتت هزيمة 67 متجسمة فى كل مصرية، فلم تكن الهزيمة فاطمة وحدها، بل هى كل النساء.
5- ماجدة.. أرجوك أعطنى هذا الدواء
الأيام تمر، والسنوات، وبدأت تكتشف خيانة زوجها كل يوم، إنه يتغيب عن البيت كثيرا، ويعود إلى البيت مُتعبا، نوع آخر من التعب يجعله يدير ظهره لها بمجرد أن يرقد على الفراش، لقد كان يأخذها كل ليلة ثم باتت الفترات تتباعد، حتى أصبح يأخذها كل شهر وربما كل عدة شهور.
كانت تقاوم جروحها النفسية بأولادها، ثم قررت الذهاب للطبيب النفسى عله يشفى أوجاعها، لقد قررت ألا تتناول الأقراص المهدئة التى أعطاها لها الطبيب بل ستأخذ دواء آخر، نفس الدواء الذى يتعاطاه زوجها!
إن الرجال يحيطونها دائما بهذا الاشتهاء البائس، وهى تقاوم احتراماً لزوج يقضى ليالى ماجنة بين أحضان الأخريات، قررت أن تجرب رجالاً آخرين حتى تعود إليها ثقتها بأنوثتها.
لقد دفعها طبيبها النفسى إلى استعادة ثقتها بنفسها، ودفعتها أنوثتها التى توارت طويلا إلى أن تبحث عن العلاج بين أحضان الطبيب، فأفاقت على صفعة جعلتها تتناول العقاقير التى رفضتها فى البداية وتنام، ربما تنام للأبد!.
6- علية.. أين عمرى؟
هل كانت يوما صبية؟، وهل كانت يوما شابة؟، وهل شربت من هذا الصبا أو هذا الشباب؟..أبدا، إنها قفزت مرة واحدة من سن الخامسة عشرة إلى سن الأربعين وضاع ما بينهما من سنوات العمر!
لماذا اختارت لها أمها هذا الزواج، ولماذا قبلته هى زوجا لها؟، فهى لم تكن تكره عمو عزيز، ولم يكن يهمها أن تُحبه، كانت تسلمه شفتين باردتين لا حياة فيهما، وتتحمله فوق صدرها وهى تحسب الثوانى ليقوم عنها.
عودت نفسها على هذا الواجب، لكنها عاشت صامتة خلف قناع قاس تواجه به المجتمع وقلب طفلة ما زال يحبو بين أطلال الماضى ليبحث عن الحُب، بعد وفاة زوجها قررت أن تتحدى المجتمع، ستسترد عمرها، ستسترد صباها وشبابها، ستبدأ الحياة من جديد.
عرفت عادل، فوجدت نفسها تقارن بين زوجها العجوز وصديقها الفتى الذى لا يتجاوز الثامنة عشرة، زوجها كان يصل إليها مهذبا، يكاد يغلبه الضعف وعادل يصل إليها عنيفا قاسيا تستبد به القوة، ولكنها كرهت الاثنين وتمنت لو لم يصلا إليها، فقط حين التقت خالد قالت له: أنت عمرى!
هكذا كتب إحسان عبد القدوس عنهن جميعا، عن نساء كن يطرقن باب بيته ويطلبن لقاءه ويجلسن أمامه بالساعات مثل الطبيب النفسى يروين ليزحن عن صدورهن عبء الأيام.
يحكين ويكتب، يفضفضن ويستمع، يتساءلن ويُجيب، هكذا لُقب إحسان عبد القدوس بأديب المرأة، وهكذا أصبحت أقدار النساء مرتبطة بأقلام ذكورية ساهمت فى تحرير المرأة وكتابة تاريخها وإعادة صياغتها وتكوينها.
المرأة فى أدب إحسان هى أمه القوية روز اليوسف، وهى زوجته الحنونة لولا، التى كانت سره وقدره وعقله المدبر.
مائة عام على ميلاد إحسان عبد القدوس وأكثر من 600 قصة ورواية خلدت اسمه فى تاريخ الأدب العربى، رحم الله أديب مصر الراحل الذى ساهم فى وضع مصر على خارطة الأدب العربى، الذى ألهم النساء القدرة على خوض الحروب والانتصار فى معركتى الحرية والعشق.