معايشة من داخل مولد الحسين.. يوميات خدام آل البيت في الليلة الكبيرة
الواحدة ظهرًا، لم يكن ثمة مكان لقدم، الابتهالات المسجلة تدوي أرجاء ساحة الحسين بالقاهرة، والأزقة المجاورة، التي نصبت في محيطها أعلام الطريقة الصوفية، أطفال يلهون، ونساء أخذن على عاتقهن تقديم الخدمات للزوار آل البيت، والتفنن في طهي الطعام، احتفالاً بالليلة الكبيرة، فيما تلهج ألسنة المشايخ والمُريدين بالصلاة على الرسول محمد، ولم تذق أعينهم النوم استعدادًا للحدث"مفيش وقت نضيعوا في النوم.. دي أيام بتغسل قلوبنا وبتفرح الفقراء وبيستناها الجميع من السنة للسنة" يقولها محمد عبد اللطيف، الذي يحرص على حضور الموالد في كافة محافظات الوجه البحر.
بعكس جميع خدام الحسين الوافدين من محافظات وبلدان شتّى، يأتي صاحب الخمسة والعشرين ربيعًا، من مركز بمحافظة سوهاج، في آخر أسبوع من الاحتفال بمولد الحسين؛ لينصب خيمته الخدمية برفقة أسرته وأصدقائه الذين يعملون معه في مشروعه الخاص "مطعم فول وفلافل"، ليسهروا على خدمة الزائرين واضعًا الفقراء نصب أعينه "اتعودت كل سنة بعد انتهاء المولد أن أعمل حصالة احوش فيها جزء معين أسبوعيا لحد قبل ميعاد مولد سيدنا الحسين والسيدة زينب بفترة افتحها وابدء أجهز للوكل وأهلي وبعض أهالي البلد بيعملوا جمعية كبيرة كمان.. وبنجمع الفلوس ونشتري المواشي وهي تركزنا الأكبر لأن ناس كتير بتيجي مخصوص علشان اللحمة.. تاخد منها زي أضحية العيد علشان تقعد فترة معاهم مش ياكلوا وجبة بس.. ده غير أن في ناس بتنظرنا سنويا علشان تاخد اللي فيه النصيب".
لم يكتفي بذلك الشهير بأبو الأحوال الرفاعي، بل يحاول أن يساهم في تجهيز زواج بعض الفتيات، اللائي تطرقن بابه أمهاتهن، كما أنهم يسعون لمساعدة بعض الشباب من أهل مدينته والذي يلتقي بهم خلال الاحتفال، في توفير فرص عمل لهم، مستذكرًا موقف سيدة عجوز العام الفائت، تزحف على أقدامها المبتورة، كل متطالبتها أن تسترها بعض الأسر وتعيش معاهم، وظلت تتردد على ساحة الحسين طوال أسبوع حتى حقق لها أمنيتها أحد خدام الحسين، وهو الموقف الذي لن ينساه طيلة حياته"الغلابة يتمنوا كل يوم يبقى في مولد".
بينما لم تتوقف يد إبراهيم حسين-الذي استقل القطار من ادفو مع ابنتيه ونجله الأكبر لمدة تتجاوز عشر ساعات، للمشاركة في احتفالات الطرق الصوفية وخدمة المريدين- عن تقليب الطعام، الذي يتأهب لتجهيزه بداية من الساعة الواحدة بعد مُنتصف الليل، إيمانًا منه أن للرجال دور مهم لا يقل عن النساء، حيث يطهون الطعام لتقديمه للزوار في السرادق والخيام، ابتغاءً لوجه الله، بالرغم من معاناته عشرة أيام، في خدمة أحباب الله، بلا نوم، إلا أن لديه القوة على مواصلة عمله بدون كلل "أكثر من 8 حلل بطبخهم في اليوم ما بين رز وخضار ولحمة"، مازحًا "ربنا رحيم بنا وأهو المولد في الشتاء وبالدفى قدام النار".
يلتقط عبدالله متولي، ذو الـ29 ربيعًا منه أطراف الحديث، وهو يتمايل مع أصوات الابتهالات، مبتسمًا "هو أمام تدفية 3 شعلة وأنا يدي طول الوقت في المياه الساقعة"، فالمهمة المخولة إليه، غسيل الأطباق، فاعتاد على ذلك منذ ما يقرب من عشر سنوات، عقب انتهائه من دراسته وحصوله على دبلوم الصنايع، بإحدى مدارس أسوان"بصحى الساعة 3 أجيب العيشة من الفرن.. ونوكل الناس وننظف الخيمة.. وبعدين اضل مكاني انظف"، مؤكدًا أن ما يفعله سنويًا خلال مولد الحسين والسيدة زينب، وعلى زين العابدين وأحمد الرفاعي، يجعله في راحة طيلة الوقت"الواحد بيتطهر من جواه وقلبه بيعيش في رضى"، بالرغم من ضيق معيشته الاقتصادية بحكم عمله باليومية في أحد المخابز، وعدم استطاعته على تحقيق أمنية والدتها بزواجه.
بينما كان محمد مدني، أمين مكتبة- والذي يقطع مسافة طويلة من مركز اسنا بمحافظة الأقصر إلى القاهرة، قبل بدء المولد بأسبوعين لحجز الخيمة الخاصة بعائلته ومنطقته بقرية النمسا وتأجيرها من أصحابها بالقاهرة بمبلغ رمزي- يحاول مساعدة زملائه وتوزيع الطعام على المردين وتنظيمهم "كلنا هنا في خدمة زوار آل البيت.. ده غير أن الاحتفال بيكون بمثابة عيد والكل بيكون في حالة تسامح وبنتعرف على ناس جدد في باقي المحافظات وبنكون علاقات جديدة ونحاول نزور ونساعد بعض" ".
وكان للأزهر الشريف داخل أزقة الحسين دورًا، فحرص الشيخ ناصر الأزهري، أستاذ مادة أصول فقه في جامعة الأزهر، على الاعتكاف طيلة أيام المولد، بهدف ارشاد الوافدين، الذي لاحظ الاقبال منهم على مولد الحسين هذا العام "بفضل اتابع الأجواء لرصد الاخطاء من أجل سردها في خطبي؛ لتوعية الناس". خفتت الشمس فجأة، وهبت رياح باردة، تعالت معها أصوات المريدون بالابتهالات والصلاة على النبي، وصوت الباعة الجائلون، الذين يتجولون وسط المحبين، آملين في رزق وفير، وهو ما يستعد له عمرو جمال، صاحب الـ33 ربيعًا، سنويًا "بشتغل في وسط البلد على طول.. بس في مولد الحسين بركز على المعز والحسين لأن ده موسم والناس كتير وربنا بيرزقني برزق بناتي الثلاثة، وبيكون في كرم كبير بمثابة شغل أكثر من 3 شهور.. لذلك من 8 الصبح لحد 10 بالليل بكون هنا يوميا.. وكمان بحاول اخد ثواب واروي العطشان واللي مش معاه فلوس بديله عرقسوس ببلاش.. وأهو كلنا بنستر بعض بالدنيا".
بخطوات مهتزة تشرف فتحية، من وقت لأخر على طهي اللحمة، "بنطبخ 3 مرات فاليوم الأولى 3 بالليل والظهر وبعد آذان المغرب.. بنجيب كل يوم بـ3 ألاف جنية لحمة.. و30 كرتونة رز وسكر ده غير كراتين الزيت والسمنة البلدي"، يساعدها زوجات ابنائها ونجلتها الوحيدة، فخيمتها تشهد إقبالاً نسويًا دون باقي الخيمات، لما يتمتعن به من مساحة واسعة من الراحة كتلك التي يكون الرجال عاملين فيها، ويكون العمل داخلها منتظمًا، فهناك أدوارًا تتناوب بينهن، فضلاً عن أنها تتميز بأطباقها الشهية عما يعمله الرجال، وهو ما تؤكده السيدة ذات الوجه المبتسم.
يحلّ الليل، الجميع يستعد لإحياء الليلة الكبيرة، بحضورالشيخ محمود التهامي، نقيب المنشدين، بعد أن شهدوا حلقات من الذكر والإنشاد الديني، الذي كان ما يُميز إحدى الخيام في الشوارع الجانبية بالجمالية، حيث يلتف حولها المئات من الزوار، بينما كان سعد مرزوق يقوم بدوره وتقديم واجب الضيافة بتوزيع الشاي على الزوار المجتمعين "بنكمل اللي جدودنا بدأوه.. إن شاء الله لأخر العمر".