"سوق الجمعة" وكر بيع المسروقات و"الإتاوة" سر المهنة (تحقيق)

في الصباح الباكر من يوم الجمعة في كل أسبوع، ينتقل صخب الحياة إلى مقابر التونسي بمنطقة السيدة عائشة في القاهرة، لتتحول من هدوئها إلى حالة من الزحام والعشوائية، فعادة ما يهرع إليها المواطنين في هذا اليوم ليس لزيارة قبور موتاهم، لكن للشراء من "سوق الجمعة" الذي ينقل للموتى في القبور خلال هذا اليوم ضجيج الحياة التي يأخذها معه كل زائر لهذا السوق.

ويقام "سوق الجمعة" في حي البساتين أمام مسجد الكحلاوي بالقاهرة، والذي يباع فيه كل شيء، فدائمًا ما يقول عنه مرتاديه عبارة "فيه كل حاجة من الإبرة للصاروخ"، فيضم عدة أسواق متجاورة وهي سوق السيدة عائشة، وسوق الإمام، وسوق البساتين، وسوق القلعة، والتي تمتد جميعها وسط القبور.

أغلب القادمين للسوق إن لم يكن جميعهم رجال وشباب جاءوا من أماكن مختلفة هيآتهم تدل على أنهم من طبقة فقيرة مطحونة ويعيشون في العشوائيات، والذين تتطابق هيئاتهم مع البائعين أيضًا، فكلاهما تجمعهما ظروف طاحنة أجبرتهما على التواجد في هذا المكان.. بائع يبحث عن قوت يومه، ومشتر أعناه البحث عن شيء يحتاجه بسعر يناسبه.

تجولت محررة "الفجر" وسط سوق كبير في منطقة كاملة بشوارعها المختلفة معروضاته جميعها من المستعمل، فقليلًا ما تجد بعض المنتجات الجديدة التي غالبًا ما تكون عبارة عن ملابس أو أطعمة "منتهية الصلاحية"،  جميعهم أسعارهم رخيصة جدًا قد تتعدى ربع الثمن الأصلي، حتى وإن كان المعروض منتج ذو قيمة كبيرة، ما أثار تساؤلات داخلي حول السر وراء تلك الأسعار الزهيدة.

بدأت الجولة داخل السوق المزدحم وسيرت بخطوات بطيئة وسط عدد كبير من الرجال والشباب الذين اختلفت مقاصدهم بين شراء الملابس أو الأجهزة والمعدات، البداية كانت عند باعة التحف، الذين من الملاحظ أن لهم مكانة خاصة بالسوق لما يقتنوه من تحف، هؤلاء الباعة الذين اكتشفنا أنهم الأشهر في بيع المسروق داخل السوق.

"التحف".. الأكثر رواجًا 

يقول أحد الباعة بالسوق والمعروف باسم "ميدو"، أن أغلب المسروقات التي تباع في السوق  من التحف والأنتيكات، كاشفًا أن بعض ما يطلق عليهم "الهجامة" يقومون بسرقة الشقق والفلل الموجودة في المناطق السكنية الراقية كالتجمع أو السادس من أكتوبر أو المدن البعيدة كالعين السخنة، مشيرًا إلى أن أغلب تلك الأماكن تكون غير مسكونة مما يجعلهم يستغلون غياب سكانها لسرقتها وبيعها كوسيط للباعة الموجودين في سوق الجمعة.

وأوضح أن هؤلاء "الهجامة" يهتمون بسرقة التحف والأنتيكات لخفة وزنها ولقيمتها العالية التي يعلموها جيدًا، فيبيعونها لأحد الباعة بالسوق الذي يعلم جيدًا أيضًا أنها مسروقة ولكنه يشتريها بأقل من ربع ثمنها في الوقت الذي يبيعها فيه بضعف هذا السعر، حيث يكون الاتفاق بينهما خارج السوق.

حديث "ميدو" كان بداية طرف الخيط الذي التقطته لأبدء من عنده جولتي بالسوق، لاستكمل ذلك الطرف عند "عاطف" ذلك الرجل الخمسيني ذو العين المفقوءة الذي كان يجلس بجانب فروشة أبهرتني قيمة المنتجات المعروضة عليها، فكانت جميعها لتحف وتماثيل ذو قيمة كبيرة جدًا فبعضها لتماثيل فرعونية  وأخرى لهنود وأفارقة، أظهرت للبائع مدى انبهاري بتلك التحف التي أرغب في شراء واحدة منها لأهديها لصديقتي، فحاول أن يظهر من جانبه أن انبهاري هذا في محله لأن جميعها مستوردة من الخارج ولم أجدها في أماكن أخرى.

يتراوح سعر القطعة الواحدة من التحف التي يبيعها "عاطف" بين 60 إلى 160 جنيهًا، وهو سعر بخس على عكس سعرها الحقيقي الذي قد يصل إلى آلاف من الجنيهات.

وفي الجهة المقابلة لذلك التاجر كان هناك تاجر آخر شاب في العشرينات من عمره، لديه بعض المقتنيات الثمينة جدا فجميعها لمصنوعات وتحف من النحاس ولكن تغطيها الأتربة، فبسؤاله عن قطعة منها عبارة عن شمعدان من النحاس المطلي قال إن سعره خمسمائة جنيه، وحينما أظهرت على وجهي ملامح تفيد بأن سعره غالي ولكني أرغب بشرائه، قال لي أن بإمكانه أن نتفاوض في السعر، ولكن هذه القطعة سعرها مرتفع بسبب أنها مستوردة .

وللتأكد من السعر لجأت إلى محرك البحث جوجل لمعرفة السعر الأصلي لهذا الشمعدان الذي قد يتخطى وزنه الخمسة كيلو جرامات وجدت أن سعره يتجاوز الثلاث آلاف جنيهًا.

وبين أرجاء السوق، لاحظت وجود بعض الفروشات لباعة الدراجات التي يظهر بعضها في صورة متهالكة وبعضها الآخر بحالة جيدة وجميعهم مستعملين، "سيد" أحد هؤلاء باعة الدراجات والذي يتخطى عمره الخمسين عامًا، قال إن سعر الدراجة 950 جنيه، ولكن بسؤال بائع آخر عن دراجة أخرى تحمل نفس المواصفات والإمكانيات قال إن سعرها 150 جنيه.

وحول هذا الفارق الكبير في السعر قال البائع الأخير إن الأول يبيع بأسعار مرتفعة على الرغم من أن أغلبها دراجات مسروقة، وهو المبرر الذي فاجئني به، بينما عودت إلى الأول الذي أعطاني أيضًا نفس المبرر قائلًا: "أنا بأديكي حاجة مستعملة لكن اللي هيقولك سعر أقل من كده سارقها وجاي يبيعها لأي زبون في السوق جايبها ببلاش وهيكسب فيها مية ولا متين جنيه.. الزبون دا ممكن يتمسك بيها ويتقال عليه حرامي".

أجهزة كهربائية بأسعار بخسة 

مشهد آخر بالسوق انتقلنا له بلقاء ثلاث من الباعة جميعهم ملامحهم مثيرة لمزيج بين الخوف والفضول، يقفون معًا إلى جانب منضدة لا يوجد عليها سوى عدد قليل من الهواتف المحمولة وشاشة تلفزيون كبيرة، آثاروا استغرابي وذهبت إليهم لأسأل عن سعر تلك الشاشة التي تظهر وكأنها جديدة وغير مستعملة، جاوبني أحدهم قائلًا: "دي شاشة ألماني جديدة سعرها 2000 جنيه"، حينها استغربت السعر كثيرًا فتلك الشاشة سعرها الأصلي لا يقل عن 3500 جنيه، فأكدت عليه هل هي فعلاً جديدة غير مستعملة ليجاوبني بالتأكيد.

وبالحديث معه عن امكاناتها والفرق بينها وبين ماركات أخرى أخطأ في حديثه وقال إنها مستعملة في ظل تأكيده من قبل أنها جديدة، حيث قال: "الشاشة  الجديدة من دي سعرها 4500 جنيه"، لأرد عليه قائلة: "ازاي مش قولت إن دي جديدة"، ما جعله يظهر على وجهه القلق ليرد بأنها مستعملة استعمال بسيط.

وبالانتقال إلى السؤال عن أسعار الهواتف المحمولة فإن الإجابة كانت بأسعار تتراوح بين ثلاثمائة حتى ألف جنيه لهواتف ماركاتها معروفة وحالاتها جيدة، وهو ما أثار استغرابي لأسأله بتحفظ: "اوعا تكون مسروقة لو اشتريته هتلفق لي قضية سرقة سهل صاحبه يجيبني"، ليرد مؤكدا أنه لا يبيع المسروق كباقي أغلب التجار بالسوق، وحتى ولو كان مسروق مش هيوصلك صاحبه لأنك بتشغلي خط جديد.

الأطفال كان لهم نصيب هم الآخرين في السوق، فعلى بعد أمتار كان يقف مصطفى- طفل في الثانية عشر من عمره- وأمامه عدد 6 من أجهزة الكمبيوتر المحمولة يعرضهم على مرتادي السوق الذين وقف بعضهم مذهولين من الأسعار التي يبيع بها، فبعض الأجهزة بحالة جيدة جدًا وسعرها لا يتجاوز التسعمائة جنيهًا، بينما سعرها الأصلي في حالة أن كانت مستعملة يباع بثلاث آلاف جنيه، وحينما سألت الطفل البائع للتأكد من حالته قال أنه يبيعه على التجربة، ليشغل الجهاز وأكتشف أن عليه بعض المحتويات المحفوظة، وبعد أن حاولت الدخول عليها لمعرفة طبيعة تلك المحتويات رفض بشدة وأغلق الجهاز.

في هذا الوقت كان يتهامس بجانبي إثنين من الشباب يبحثون عن جهاز لاب توب تمت سرقته من أحدهم وجاءوا ليتأكدوا ما إذا كان موجود بالمكان أم لا، فأشار لي أحدهم أنهم على علم بأن أغلب الأجهزة المسروقة يتم بيعها في السوق حتى يتخلص السارق منها، خاصة وأن من يشتريه لن يتمكن من الوصول لهم مرة أخرى، لافتين إلى أنه كان لأحد أصدقائهم تجربة مشابهة لكن كان مسروق منه هاتفه المحمول ووجده معروض لدى أحد الباعة ولكنه لم يتمكن من استعادته لأن البائع رفض الحديث معه كما أنه هدده بالتعرض له إذا لم يترك المكان.

الحرام لا يدوم

لم يكن السوق لبيع المسروقات فقط لكن هناك من يتخذه كـ"سبوبة" للسرقة أيضًا فعلمهم أن أغلب البضائع مسروقة دفعهم ليستغلوا الفرصة على سبيل مقولة "حرام بحرام" أو أن الحرام لا يدوم، فيقول "أ.ح" - بائع في سوق الجمعة، إن السوق يرتاده أيضًا بعض اللصوص الذين يحاولون سرقة الفروشات من خلال إلهاء التجار، موضحًا أنهم يأتوا في مجموعات أحدهم يتحدث مع البائع ويقوم آخر بسرقة البضائع المعروضة، وهو ما كشفه التجار فلجأوا إلى الوقوف بمجموعات أيضًا اثنين أو ثلاثة على كل فروشة، كما يمتنع كل البائع من الرد على أي أحاديث مطولة مع الزبائن، فلم يكون زبون ولكنه لص جاء لسرقته.

الإتاوات.. لا من شاف ولا من دري

وحول الحالة الأمنية بالسوق، يقول إن القيادات الأمنية بالقسم التابع للسوق، ويعلمون جيدًا ما يجري في السوق، مؤكدًا أنهم على علم أيضًا بأن السوق به لصوص وبعض التجار المتعاونين معهم لبيع المسروقات، مؤكدًا: "بعض أمناء الشرطة في القسم بيفرضوا إتاوات على البياعين اللي بيبيعوا مسروق علشان يسكتوا ويسيبوهم يبيعوا".

وتابع متذكرًا إحدى الوقائع الخاصة ببيع المسروقات ليسردها قائلًا إن أحد الشخصيات المرموقة قام اللصوص بسرقة مسكنه فقامت القيادات الأمنية بقسم الخليفة بشن حملة أمنية على السوق فور إبلاغهم للبحث فيه عن المسروقات وقاموا بالقبض على بعض اللصوص المعروفين بالسوق للاعتراف.