د.نصار عبدالله يكتب: ذكريات سميحة أيوب«4»

مقالات الرأي



نواصل فى هذا الأسبوع ما انقطع فى الأسبوع الماضى من حديثنا عن كتاب: «ذكرياتى» الذى كتبته الفنانة المقتدرة سميحة أيوب بنفسها دون أن تلجأ كما يفعل الكثيرون من النجوم فى شتى المجالات إلى محرر وسيط محترف يعيد صياغة ما يرويه صاحب الذكريات، وهو الأمر الذى من شأنه كما أوضحنا فى الحلقة الأولى من هذه السلسلة أن يحجب عادة جانبا من الصورة المباشرة لذات الراوى كما يراها هو بنفسه لكى تحل محلها صورة الراوى كما يراها الوسيط المحترف!.. ولقد نجت مذكرات سميحة أيوب من الوقوع فى هذا المنزلق مبرهنة بذلك فى الوقت ذاته على أنها تمتلك موهبة أخرى غير موهبة التمثيل ألا وهى موهبة الكتابة بأسلوب بالغ الصدق والتلقائية والتأثير، هنا أتوقف لكى أشير إلى أن لغة السرد عندها (العربية الفصحى) هى لغة خالية بشكل استثنائى من الأخطاء النحوية التى تذخر بها فى الوقت الحاضر الكثير من الكتابات التى يكتبها حتى بعض أولئك الذين يعدون من الكتاب المرموقين!!، لا نتكلم بالطبع عن الجمل الحوارية فقد أصبح من المستقر فى فن الكتابة الأدبية (المسرح والرواية والقصة) بل وفى فن الكتابة عموما بما فى ذلك فن المقال بمختلف أنواعه أصبح من المستقر أن تكون الجملة الحوارية باللغة العامية (اللهم إلا فى بعض الأعمال المسرحية ذات الطابع التاريخى أو الدينى)، نحن إذن نتكلم عن اللغة السردية وحدها فى كتاب سميحة أيوب والتى تكاد أن تكون خالية تماما من الأخطاء النحوية، وحتى بعض ما يبدو وكأنه خطأ نحوى وارد فى جمل سردية أو فى جمل وصفية، إنما هو استدعاء للغة العامية ذات الكلمات الساكنة لا المعربة وتوظيفها فنيا داخل الجملة الفصيحة وهو ما من شأنه أن يمنح الجملة الفصحى زخما أكثر وقدرة أكبر على التعبير عن الموقف موضوع السرد، وحتى لا يكون كلامى تهويما نظريا سوف أقدم للقارئ أمثلة محددة للتدليل على هذا الرأى، ففى ص 780 من الطبعة الثانية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب عام 2017 وتحديدا فى السطر الثانى تقول الأستاذة سميحة أيوب فى معرض عرضها لتطور العلاقة بينها وبين الأستاذ محمود مرسى المخرج فى البرنامج الثانى بالإذاعة فى ذلك الوقت والذى كان قد أخرج لها عملا تمثيليا واحدا هو «الذاهبون إلى البحر».. تقول الأستاذة سميحة: «كان المخرج فى ذلك الوقت لا يستطيع أن يكرر ممثلا فى برنامجه إلا بعد أن يعمل ثلاثة أعمال بدونه وفى العمل الرابع يستطيع أن يستدعيه!».. من الناحية النحوية الخالصة، فإن الصواب طبقا للغة الفصحى هو أن تقول: ثلاثة أعمال.. لأن العدد هنا لا بد أن يخالف المعدود فى التذكير والتأنيث.. وكلمة «أعمال» هى جمع عمل، وهو لفظ مذكر ومن ثم لا بد أن يسبقه «ثلاثة» لا «ثلاث»، غير أن الأستاذة سميحة قد استدعت من خلال وعيها، أو بالأحرى لاوعيها الفنى، استدعت بشكل تلقائى العبارة العامية التى كانت تستخدم فى الوسط الإذاعى والتى كانت تجرى إذ ذاك على ألسنة المخرجين والممثلين وهى : «تلات أعمال» وبذلك أصبح ذلك التعبير الأخير أكثر قدرة على محاكاة الواقع من التعبير الفصيح السليم نحويا: «ثلاثة أعمال».. ومما يؤكد هذا الرأى أنها تقول فى الفقرة التالية: استدعانى الأستاذ محمود لعمل النص الكامل لتنيسى وليامز وهو «عربة اسمها الرغبة»، وقلت فى نفسى: استطاع بهذه السرعة أن يخرج ثلاثة برامج !!، وجلسنا فى البروفة، ولاحظت أننا نتحاشى أن تلتقى أعيننا، وكأن بيننا اتفاقا على ذلك، وجاء اليوم الثانى للعمل، والحق يقال كان العمل مرهقا، وهو رجل دقيق جدا، ومثقف جدا، وفاهم برضه جدا.. هنا تستخدم الأستاذة سميحة لفظ «برضه» الذى تستدعيه فى هذه المرة من العامية عمدا لتوظيفه فى جملة فصحى، فيكون بذلك أكثر قدرة على التعبير عن حوارها الداخلى مع ذاتها (أتساءل هنا: هل كان بوسع أى كاتب محترف أن يفعل هذا لو أنها عهدت إليه بصياغة المذكرات واكتفت هى بتسجيلها، حتى لو كان هو رجاء النقاش وهو من هو؟ الجواب.. لا أظن).

هل أضرب مثالا ثالثا؟.. سوف أفعل، وهو مثال فى هذه المرة أبلغ دلالة، فى نهاية صفحة 82 تقول المؤلفة عندما قال (محمود مرسى) شيئا يطمئن، أحسست أننا سوف نتقابل مرات ومرات، ولكن كيف السبيل ونحن فى مجتمع قاس.. الصواب النحوى هنا هو: قاس (بدون ياء لأنها منونة) لكن قاسى مستدعاة من العامية بكل ما يحمله تراث الكلمة من الشحنات الوجدانية.. وربما كان للحديث بقية.