بطرس دانيال يكتب: افحص ذاتك
يعلّمنا السيد المسيح قائلاً: «كونوا رُحَماء كما أن أباكم رحيم. لا تدينوا فلا تُدانوا. لا تحكموا على أحدٍ فلا يُحكَم عليكم. أُعْفوا يُعْفَ عَنكم» (لو6: 36 - 37). كان هناك رجلٌ مُسِنٌ يكسب قوته اليومى من حصيلة بيعه لبعض الملابس الرخيصة، ولكن للأسف كان بعض الأشخاص عديمى الضمير يعتبرونه ضعيف الفهم والإدراك، لذلك كانوا يدفعون له نقوداً مزوّرة، ولكنه كان يَقْبَلها فى صمت دون أى اعتراض، ووصل الحال بالبعض الآخر أن يَدّعى بدفع النقود له ولم يكن هذا صحيحاً، ومع ذلك كان الرجل المُسِن يثق فى كلامهم. وعندما أصبح على فراش الموت، رفع صلاته لله قائلاً: «يا رب، لقد قبلتُ الكثير من النقود المزيّفة التى كان يدفعها لى الناس، ولكننى لم أَدِنْهم فى قلبى، وكنتُ أكتفى بالادّعاء بأننى لم ألاحظ تصرفهم هذا؛ أنا أيضاً نقود بلا قيمة، أرجوك ألا تدينني». فسمع صوتاً من السماء يقول له: «كيف أدينُ شخصاً لم يدن الآخرين أبداً؟». ما أجمل الدرس الذى يعلّمنا إياه هذا الرجل فى عدم دينونة الغير والبساطة والكرم والمحبة التى تتغاضى عن شر الآخرين، ولا يَرُد الشر بالشر ولكنه يغفر إساءة الناس، كما أنه يعلّمنا كيف يستطيع الإنسان أن يعرف حدوده: «أنا عُمْلُة بلا قيمة». كم من الأشخاص يدينون الغير بناءً على المظهر الخارجى ويحكمون عليهم دون فهم حالتهم؟ مَنْ منَّا يتحلّى بالشجاعة حتى إنه يواجه نفسه ليصلح عيوبه؟ هل يوجد مَنْ يفحص ذاته من الداخل حتى يكتشف التشوّهات التى بداخله ولا يعلمها إلا الله وحده؟ يقول أحد القديسين: «إن الأشخاص الذين يتسامحون مع أنفسهم عندما يخطأون، نجدهم قاسين مع الآخرين». لكن الإنسان القوى يستطيع أن يواجه ذاته ويرى حقيقتها ويغزوها بشجاعةٍ، لأنه ينظر لنفسه فى المرآة الصادقة التى لا تكذب ولا تتجمّل ولا تنافق، ومن ثَمّ يبدأ فى إصلاحها. ونطلب من الله أن يعطينا الشجاعة حتى نغيّر من أنفسنا ما نستطيع فعله، ويُعطينا القوة لكى نرضى عما عجزنا عن تغييره. كم من المرات ألقينا خلف ظهورنا عيوبنا وأخطاءنا، بينما نضع نُصب أعيننا أخطاء وسلبيات الغير؟ ونعيش هذا الواقع المؤلم عندما نكون على خلاف مع أحد الأشخاص، نتصيّد له كل شيء يقوم به ولا نرحمه مهما كانت الظروف التى يمر بها، حتى إننا نكيل بمكيالين: نتهاون مع سلبيات البعض لأنهم من المقرّبين لقلوبنا، بينما مع الآخرين الذين على خلاف معنا ننتظر اللحظة التى يقعون فيها حتى لا نرحمهم بسياطنا ونجلدهم أمام الغير. هل نستطيع أن نصبح صارمين مع أنفسنا ورحماء مع الآخرين؟ للأسف، صعب جداً وكما يقول المَثَل الألماني: «نحن نملك مائة عين ننظر بها الآخرين، ولكن عيناً واحدة نحو ذاتنا». يا ليتنا نفتح أعيننا لننظر عيوبنا وأخطاءنا حتى نُصلحها، وننظر للغير بعين الرأفة والحنان ملتمسين لهم العُذر على ما يصدر منهم. مَن يفتش عن عيوبه، يستطيع أن يتخلّص منها، لأن كل شخصٍ منّا أفضل مَن يدرك حقيقة نفسه ومكنون ذاته، لأنه سيضع يديه على أمراضه الداخلية وإصابته بالداء فيعالجها كالجرّاح الذى يقتلع أسباب الورم. وهنا نطلب من الله أن يمنحنا ذاكرة ضعيفة تنسى إساءات الغير، وذاكرة قوية تسجّل أفضالهم. فالإنسان مجهول بالنسبة للآخرين، وإذا اكتشف نقائصه وفضائله فى ذات الوقت، مما لا شك فيه سيعالج الأولى ويُنَمّى الثانية، وبهذه الطريقة سيصبح أفضل مما سبق، لأن مَن ينظر إلى نفسه بنفسه ويحاسبها وينتقدها، يمكنه أن يغيّر مسارها إلى الأفضل لأنه سيتخلّص من شوائبها التى تعوق الرؤية عن كل ما هو جميل، وبناءً على ذلك يستطيع أن يشاهد جمال الدنيا وما فيها، وفى ذات الوقت يلتمس العذر للآخرين. لكن مَن لا يقوم بذلك، يتغاضى عن عيوبه ويبدأ فى انتقاد الغير ويتطاول عليهم، لأن هذا ناتج عن مرض عِضال فى حياته، اسمه النقد الهدّام وهو مرض السطحيين ومحدودى الذكاء، ونجد أمثال هؤلاء يخوضون فى أحاديث لا معنى لها حتى إنهم يجاملون أصحابهم على حساب سمعة الغير، ويبدأون فى انتقاد هذا، والسخرية من ذاك، وكما نعرف جميعاً أن نقائص العظماء هى عزاء الضعفاء، لأن مَن يفتش عن أخطائنا، لن يجد سواها. لا ننكر أن النقد البنّاء لنا، يساعدنا على النمو والتقدّم والبناء، وهذا ما نسميه الإصلاح الأخوى. ونختم بالقول المأثور: «أنت أحسن مَن ينصحك، ولكنك لا تفعل ذلك».