كرستينا عياد تكتب: صوت صارخ في الأنفاق
كتب له الله أن يحيا أعوامه التي زادت عن الخمسين دون ان ترى عيناه النور مكتفيا بان يصف له الناس ما يدور حوله ، لم يمتلك يوما حق اختيار الوان ملابسه فهو لا يدرك معنى الالوان مكتفيا بالاسود كرفيق لرحلته في هذا العالم البائس.
لست أعلم الكثير عن تفاصيل حياته الخاصة و لكنني حسدته لنعمة فقدان البصر في مجتمع صار فاقدوا البصيره فيه هم الاغلبيه.. فخطواته الخائفة واقدامه المرتعشة خشية الاصطدام بمجهول ما؛ لم تشفع له حتى يرحمه شخصا ما ويصطحبه في هذه الأمتار القليلة من ماكينة التذاكر وحتى عربة المترو الذي يستخدمه للتنقل من مكان لأخر بصفته الوسيلة الأكثر أمانا بحسب ما يفترض.
كان ركوبه المترو بمفرده مجرد محاولة مستميتة منه للتعايش كشخص طبيعي أملا ان لا يضعه فقدان البصر ضمن القائمة المنبوذة للمعاقين كما شبهوه.. ظل يذهب ويجئ معتمدا على باقي حواسه وعلى رجاء في رحمة وإنسانية باتت من دروب الخيال.
بالطبع لم يكن يدري أن سائق القطار 184 هو أخر من سيحتضنه لتوديعه لمثواه الأخير -ليس تأثرا بحجم إعاقته- بل لعدم قدرته على السيطرة مكابس إيقاف عربات القطار، ولما نعانيه من نقص حاد في سلامة الانتقال، لتصبح قضبان المترو شاهدهه الأمين لدمه المراق دون أي ذنب تاركا رسالة لكل ذوي الاختياحات الخاصة.. ممنوع الاقتراب او حتى التفكير.
أعلم أننا لسنا جزء من كوكب اليابان غير الشقيق، أو ضمن دولة كالمانيا تقدر الاستثمار في الافراد قبل المنتجات، ولكن تبقى لنا ذلك الحلم البعيد المعروف باسم الإنسانية.. ليس له ولكن لمن هم لا حول لهم ولا قوة، فما الذي يمنع السيد علي الفضالي رئيس الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق عن اتخاذ قرارات تتيح لذوي الهمم من أصحاب الاحتياجات الخاصة ان ينعموا بانتقال آمن عبر وسيلة لها العديد من المميزات.
لماذا لا تامر سيادتكم بتشكيل لجنة لاتخاذ ما يلزم من التدابير لعدم تكرار هذا الامر مرة اخرى وليكن مثلا تخصيص عربة لذوي الاحتياجات الخاصة، يشرف عليها عدد من العاملين بالشركة، ويمنع من دخولها الاصحاء، بل وتفرض غرامات لمن يفعل غير ذلك.. ولتعتبره يا سيدي مصدرا لزيادة موارد ذلك المرفق الحيوي بعيدا عن الطريقة التقليدية برفع تعريفة تذاكر- ومن ناحيه آخرى حماية ذوي الهمم من ساعات الذروة والتكدس، أو تخصيص مسار خاص لهم يدعم وجودهم في النطاق الآمن من رصيف المحطة، أو أضعف الإيمان حق هؤلاء في الجلوس على مقاعدهم المخصصة في كل عربة.. وفرض غرامات لجلوس غيرهم عليها.. أليست حقوقهم؟!
أليس من حق من هم مثل خالد "الكفيف المعاق" كما وصفه بيانكم أن ينعموا في عام خصصه لهم السيد رئيس الجمهورية بقليل من المميزات في انتقال آمن يدعم سلامتهم؟!
لماذا اكتفيت سيادتكم ببيان يزف لنا خبر سقوط ذلك الكفيف تحت القضبان ايا كانت اسباب هذا السقوط ... الم يكن حريا بكم ان تعدنا في بيان مشابه باجراءات جديدة لمنع تكرار هذه المأساه عوضا عن يصبح ذلك المواطن هو والقضبان سواء
أعلم أن الحياة والموت قضاء وقدر، وكلها أمور بيد المولي عز وجل، ولكن الله وهبنا بصيرة و عقل يفترض ان يكون مميزا خاصة لمن كان منا في موضع المسئولية دون الاختباء خلف ايماننا بقضاء الله وقدره نتائج لتقصيرنا..
ولكي أكون محقة فنحن أمام عدة تساؤلات تجعلنا في موضع الإدانة.. فهل سحقت آدميتنا لهذا الحد لدى كلا من سائق القطار الذي قام بدهسه بدم بارد رغم ما تردده إدارة المترو على مسامع الإعلام من قيامها بتدريب السائقين بمهارة للتعامل مع الازمات، والتشديد على ضرورة تهدئة السائقين عند دخول المحطات للتوقف في الارصفة.
أين ذهب فرد الأمن والنظافة وملاحظ المحطة ومتابع الكاميرات التي تزين كل -خرم أبرة- في جنبات كل محطة وعدد لا بأس به من العاملين في محطات شركة المترو الا يسمع اصواتكم سوى في المطالبة بالحوافز والزيادات؟
نعم اكتب هذه الكلمات وانا اعي انها تهاجم شريحة العمال التي طالما كنت أجدهم الأولى بالدعم، ولكن.. صار بيننا دم برئ، لم يرتكب أي ذنب سوى أن الله ميزه عنا بميزة ليفتضح فقركم في السلامة والأمن.
أما انت وأنا يامن نسير إلى جوار هذا المسكين، في داخل نفس المعصرة اليومية ، الم تجد في قلبك ذرة تعاطف تحثك على حتمية مساعدة هذا الكفيف المعاق ؛ أعلم تمام العلم ما يفرضه علينا ركوب المترو من سرعة في التحرك، وتكدس في أوقات الذروة تهين حتى آدميتنا كأشخاص معافين، ولكن ذلك لم يكن سبب مقنع لعدم توقفنا لحظة نقدم يد العون لمن هم في حاجة لها.
أخيرا فلازالت اتذكر تصريحك يا معالي الدكتور هشام عرفات وزير النقل الذي اعلنته في نقابة المهندسين اثناء توقيع بروتوكول تطبيق كود الإتاحة لذوي الإحتياجات الخاصة في وسائل النقل ومرافقها المختلفة، ديسمبر 2017، حين اعترفت قائلا بأننا أبخسنا في حق ذوي الاحتياجات الخاصة، وإعلانك تعويضهم خلال العام 2018، والذي لم يحدث منه شيئا، لذلك فان صرخات ذلك المسكين جاءت لتشق اذناي متساله عن وعودكم التي ابتلعتها الانفاق، لن اتحدث عن اي مشروع لم تقم باعلانه حتى لدعم هذه الفئة، فحتى الأن لم تخرج علينا وزارة النقل بعد مرور قرابة شهر على موت شهيد الانفاق، بتوليها رعاية ذويه، او حتى نعيه بشكل لائق يناسبه، ولأن الشكوى والسؤال لغير الله مذلة.. لم يتبقى لي سوى أقتباس جزء من كلماته وأهديها إليك كختام لهذا الحديث.. يقول تعالى: "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.