ربيع جودة يكتب: السوار
كنت عالقاً بثيابها.. وخطواتي السريعة المتلاحقة تسعي خلفها.. فلا زلت أذكر ذلك المنحني الضحل المؤدي إلى الشارع المزدحم حيث رائحة الجوافة تغزو أنوف المارة.. وصخب السيارات وصيحات البائعين.. تجوب أرجاء السوق.. تجرني جراً.. وأنا لا أكاد أترك شيئا إلا ونظرت إليه.. حتى انعطفنا يميناً إلى ممر ضيق وفي آخره تعلو قبة خضراء توحي بوجود ضريح .. وقد انعزلنا تمامآ عن الصوت. وانقضي الزحام.. وكأننا في صحراء خاوية.. اقتربنا من باب المقام.. فحملتني من تحت ذراعي وادخلتني من الباب الضيق.. وجعلت تتمتم بكلمات لا أعرفها ثم أمسكت بطرف الكسوة الخضراء تمسح بها رأسي ووجهي.. حتى إذا فرغت مني.. تركتني اجوب المكان.. ورفعت يديها.. تحظي لنفسها بدعاء ورجاء.. وبينما هي كذلك.. وبينما أطوف حول الضريح أتفقده.. إذا بي لا أجدها.. فارتجف قلبي وهرعت إلى الباب أصيح وانادي.. أين أنتي .. وخرجت حافي القدمين أبكي هلعا.. فإذا بعجوز تجلس متشحة بإزار يشبه الليل في سواده .. وبين عينيها وشم قديم.. فقلت لها.. ألم تجديها؟؟ . فنظرت إلي.. ولم تتكلم.. فتابعت قائلا .. كانت معي.. وخرجت من هنا ألم تجديها؟؟ .. رفعت عينيها.. ثم عاودت النظر إلى حصيات كانت بيديها تقلبها.. ثم ألقت بها بعيداً.. وقامت وكأنها لم تقم منذ عام.. وأنا أردد في بكاء أين ذهبت لألحق بها.. فأشارت إلي أن اتبعني.. فمشيت خلفها أرجوها أن تنطق.. حتى دارت خلف المقام ونزلت على درجات سلم قديم.. فقالت أغمض عينيك .. فأغمضت وبداخلي أمل كبير أن يكون الأمر مزاحاً.. وهي تردد انتظر.. انتظر.. انتظر.. ثم اختفى الصوت.. فسألتها أن أفتح عيني فلم تجب.. حتى فتحتها على مهل.. فلم أجد العجوز.. ولم أجد الدرج.. ووجدت سواراً من فضة.. تتدلي منه قطعة تشبه المرآه المدورة.. جريت من المكان مرتعداً حتى نزلت السوق.. ابكي واصرخ واجتمع الناس من حولي.. واهتم لأمري أحد التجار.. واجلسني بجواره .. ربما يأتي من يسأل عني.. حتى انقضى النهار .. وتبعثر المارة.. وقلت الخطوات من حولنا.. وجمع التجار ما تبقى من حصاد اليوم.. واخذني التاجر الطيب إلى بيته.. وسد جوعتي وسقاني .. وأمَّن خوفي.. على أن يأخذني معه في الصباح نكمل البحث.. وصباح يتلوه صباح.. أظل بجواره في السوق.. اساعده وانتظر أن تأتي من تأخذني.. حتى تسلل العام.. ثم انقضت من بعده أعوام وأعوام.. حتى اشتد عودي..وصرت تاجراً كبيراً.. له دار.. ودوار.. وبينما اجلس في حنايا الليل.. لا ينتهي تفكيري أين ذهبت.. ولماذا تركتني .. فإذ بشيء يلمع من تحت أخشاب قديمة كانت بالجوار.. فاقتربت منه فإذا بالسوار الفضي تتدلي منه المرآه.. نظرت إليه وبكيت آسفا لفقدان الدليل والعائل.. ثم تذكرت العجوز المريبة.. وأنا أقلب السوار في يدي.. فإذا به منقوش عليه.. تجدها حين تقرأ الرسالة.... فجعلت أقلب في السوار.. أين الرسالة.. فلم أجد إلا صورتي في المرآه.. مكتوب تحتها.. قلبك موطنك.. ولعلك ضائع إلى ما كنت ترجو .. ابتسمت وهدأت نفسي.. ونظرت إلى السماء أحمد ربي.. ثم عاودت النظر لأقرأ الرسالة مرة أخرى.. فلم أجد السوار في يدي.. فقمت منتفضاً أدخل الي الدار..