عادل حمودة يكتب: تعالوا لنتحاسب وجها لوجه
لمَّ تركنا من باعوا شركاتهم للأجانب يكسبون مليارات سهلة لم يدفعوا عنها ضرائب؟
لمَّ نتصالح مع الفاسدين وننجيهم من السجن ونقف بالمرصاد ضد كل من يحترم القانون وينفذ ما يطلب منه؟
لمَّ نترك كبار رجال الدولة يعملون فى خدمة شركات خاصة تستغل علاقاتهم فى تحقيق مصالحها بعد تركهم مناصبهم؟
لمَّ تظل البيروقراطية المتوحشة معطلة للاستثمار وعاجزة عن اتخاذ القرارات فى الوقت المناسب؟
حسب تقرير نشرته صحيفة «زود دويتشه» الألمانية يوم 29 نوفمبر الماضى فإن المصنع فتح فرعا له فى المنيا عام 2007 وفرعا ثالثًا على بعد 50 كيلومترا شمال القاهرة عام 2009 وبعد ثورة يناير 2011 فكر ليبب فى العودة إلى لبنان وإغلاق الفرعين ولكنه تراجع بعد أن عادت الأسواق إلى ما كانت عليه من انتعاش.
احتفظت عائلة ساويرس بمصنع الخمور لأنها على ما يبدو لم تجد شركة أجنبية تشتريه كما حدث مع مصانع الأسمنت التى باعتها إلى شركة «لافارج» الفرنسية وشركة التليفون المحمول (موبنيل) التى استقرت فى حجر أورنج.
فى عام 1998 فشل نجيب ساويرس فى الحصول على رخصة الشبكة الثانية للتليفون المحمول ورست المزايدة على رجل الأعمال محمد نصير.. ولكن.. لم تمر سوى فترة وجيزة من الزمن حتى قررت حكومة الدكتور كمال الجنزورى بيع الشركة الحكومية لخدمات المحمول إلى نجيب ساويرس بالأمر المباشر بكل ما تملك الشركة من أجهزة وبكل ما لديها من مشتركين ليجنى فواتيرهم من اليوم الأول وأجبرت البنوك وشركات قطاع الأعمال وهيئة التأمينات الاجتماعية على التنازل عن أسهمها للمالك الجديد بالسعر الرسمى للسهم الذى كان يقل كثيرًا عن قيمته السوقية.
بتلك الصفقة التى استفزت الصحافة ومجلس الشعب والرأى العام قفزت ثروة نجيب ساويرس من خانة الملايين إلى خانة المليارات ودخل قائمة الأكثر ثراء فى العالم خاصة بعد أن باع حصته الحاكمة إلى شركة متعددة الجنسيات دون أن يدفع مليما واحدا للضرائب.
ولا شك أن تلك الصفقة بكل ما فيها من ملابسات غامضة شككت فى عمليات الخصخصة وأفسدت القواعد الطبيعية للاستثمار.
وكرر ناصف ساويرس ما فعل شقيقه عندما باع ما يملك من مصانع للأسمنت إلى شركة لافارج الفرنسية دون أن يدفع هو الآخر مليما واحدا من الضرائب ليتضاعف حجم الخلل فى القواعد المستقرة للاستثمار.
لقد حصلت عائلة ساويرس على تلك الشركات الحكومية لتنميتها وتطويرها وتحسين خدماتها ولكنها لم ترع سوى مصلحتها الخاصة ببيعها بمكاسب هائلة لم تستثمرها فى مصر بل استثمرتها فى دول بعيدة عنها.
بسبب ذلك الخلل الصارخ فى خصخصة بعض الشركات العامة استقر فى يقين المصريين أن كل الشركات التى بيعت لمستثمرين مصريين وأجانب من القطاع الخاص شابها الانحراف فانهالت البلاغات على النيابة العامة ورفعت القضايا أمام القضاء الإدارى انتهت بأحكام تعيد شركات منها إلى الدولة التى وجدت نفسها أمام موقف قانونى صعب فلا هى تستطيع استرداد تلك الشركات ولا هى تقدر على عدم تنفيذ الأحكام وكانت النتيجة لجوء كثير من المستثمرين الذين أصابهم الضرر إلى التحكيم الدولى وحصلوا على تعويضات بمليارات الدولارات وسعت الحكومة للتسوية معهم بعد أن دفعت لهم مبالغ أكثر من التى باعت بها الشركات ولكن الأهم أن مصر فقدت سمعتها الاستثمارية ولم يعد يأتى إليها من الأجانب سوى مضاربين فى البورصة يجيدون اصطياد الربح قبل الخروج منها فى الوقت المناسب إلا قليلا راهنوا على اكتشافات الغاز.
لا تفسير لما جرى سوى وجود اضطراب فى القواعد الحاكمة للاستثمار فى مصر وجنوحها فى وقت من الأوقات ناحية الاعتبارات الشخصية- ورغم أن هذه الاعتبارات ربما تراجعت الآن فإن آثارها فى نفوس المستثمرين والمصريين لا تزال قائمة ومؤثرة وضاغطة بصورة سلبية.
لقد خصخصت مارجريت تاتشر طوال سنوات حكمها الطوال المرافق العامة (المطارات والبريد ووسائل النقل) دون أن تجد نفسها أمام القضاء وإن عانت من شدة المعارضة السياسية حتى ظهرت ثمار قراراتها بزيادة معدلات النمو وانخفاض مستويات البطالة وجذب أرقام غير مسبوقة من الاستثمارات الأجنبية.
ورغم سيطرة الحزب الشيوعى على مقدرات الأمور فى الصين فإنه حرر وسائل الاستثمار من قيودها السياسية والبيروقراطية والتزم بصرامة بتطبيق القواعد على الجميع دون استثناء أو تمييز فحققت الصين معجزة اقتصادية غير متوقعة جعلت منها دولة عظمى.
أما فى مصر فلم يحترم أحد قواعد الاستثمار.. وتساهلت الحكومات المتعاقبة مع من تشاء.. وتربصت بمن تشاء.. ولنضرب الأمثال.
خصصت هيئة التنمية الزراعية مئات الأفدنة من الأراضى الصحراوية لمن يرغب فى استصلاحها وأجلت تسجيلها إلى ما بعد قطف ثمارها أو جنى محاصيلها.. ولكنها تساهلت مع من بورها ليبنى عليها مساكن يكسب من ورائها الكثير.. واكتفت الهيئة بالصلح مع المخالفين بعد دفع غرامة اتفق عليها.. وفى الوقت نفسه تلكأت فى تسجيل الأرض لمن نفذ كل ما طلب منه ليجد نفسه هدفا فى مرمى الميديا للتشهير به كما فى حالة طارق نور.
خصصت الهيئة إلى شركة ديزرت ليكس (المساهم فيها أفراد من عائلة طارق نور) 800 فدان من الأراضى الرملية الصفراء أنفقت عليها 200 مليون جنيه لاستصلاحها وزراعتها بالكامل حتى إنها صدرت إنتاجها إلى الخارج وطالبت الشركة منذ عام 2010 بحقها فى تحرير العقود النهائية بينها وبين الهيئة ولكنها لم تجد استجابة منها.
لجأت الشركة إلى القضاء الإدارى ليحكم لها بما تريد ولكن جرى تفسير الحكم بما يوحى بأن عائلة طارق نور مغتصبة للأرض، فانهالت عليه سكاكين الميديا تمزق وتشفى.
وبدا واضحا أن لا مسئول فى هيئة التنمية الزراعية مستعد لاتخاذ قرار خشية الوقوع فى خطأ ولو كانت الملفات التى أمامه مستوفاة بعد أن سجن وزير زراعة سابق بتهمة الرشوة فى واقعة شهيرة.
نحن هنا أمام تناقض مذهل.. من بنى مساكن على أرض خصصت لاستصلاحها نتصالح معه مقابل نسبة من أرباحه الهائلة التى حصل عليها بمخالفة القانون.. ومن احترم القانون ونفذ شروطه نتركه حائرا دون أن ننسى التشهير به والطعن فى سمعته.
والحقيقة أن لجنة التسويات التى يديرها رئيس الحكومة ضاعفت من اضطراب قواعد الاستثمار فهى تقبل بالصلح مع المخطئين من المستثمرين ولو حكم عليهم جنائيا بشرط أن يدفعوا الغرامة المقررة ويحق لتلك اللجنة أن تطلب من النائب العام الإفراج عن المتصالح ولو أيدت محكمة النقض حكما بسجنه مما يغرى بفساد البعض فلو مر ما فعل بسلامة خرج فائزا بالغنيمة وإن قبض عليه وافق على التصالح ليخرج من جريمته مثل خروج الشعرة من العجين.
وأتصور أن قرارات اللجنة بالإفراج عن محكوم عليهم جنائيا فيه تجاوز من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية يجب مراجعته حتى لا يطعن على دستورية تلك القرارات.
وهناك ظاهرة أخرى تستحق التوقف عندها.. لجوء شركات ما إلى تعيين مسئولين سابقين (بعضهم وزراء) مستشارين لها.. تدفع لهم أجورا مغرية.. للاستفادة من علاقاتهم التى كونوها وقت أن كانوا فى السلطة.. مما يعنى أن الاعتبارات الشخصية لا تزال تفرض نفسها على الاستثمارات فى مصر.
وعادة ما تستبدل تلك الشركات مستشاريها القدامى بمستشارين غيرهم تركوا مناصبهم الرسمية الرفيعة حديثا لتكون علاقاتهم بدوائر المصالح أكثر تأثيرا.
ويمكن القول أن وزيرة الاستثمار غيرت من ديكورات صالات استقبال رجال الأعمال لتنافس بها فنادق الخمس نجوم وسهلت إجراءات تسجيل الشركات بسياسة الشباك الواحد ولكنها لم تسهم فى حل مشاكل المستثمرين خارج حدود مكتبها فحققت أرقاما على الورق لا تجد لها أثرا فى الواقع.
إن البيروقراطية المتوحشة فى مصر تعطل المراكب السائرة حتى تغرق.
خذ عندك.. تترك المسئولة فى وزارة الصحة معدات طبية فى الجمارك بالشهور فى انتظار توقيعها لأنها مشغولة مع الوزير فى جولات المحافظات.. فلم تتردد شركة جنرال إلكتريك فى الاستعانة بالسفير الأمريكى للإفراج عن أجهزتها المستوردة لحساب مستشفيات عامة وخاصة قبل أن تفسد وتفقد صلاحياتها.
ولو كانت جنرال إلكتريك وجدت من يتدخل لصالحها فما الذى تملكه الشركات الأخرى سوى اللجوء إلى أولياء الله الصالحين طلبا لتنفيذ حاجاتها.
إن معاناة المستثمر المصرى تخيف المستثمر الأجنبى ولو شئنا جذب أموال خارجية فعلينا تسهيل الأمور على الأموال المحلية.
والقاعدة هنا كما سمعتها فى أحد منتديات دافوس: إن دولارا واحدا يستثمره المواطن فى بلده يأتى بمائة دولار يأتى بها أجنبى لكى يستثمرها.
الاستثمار يبدأ من الداخل ليطمئن الخارج.
وهناك شعور بعزوف المستثمر الوطنى عن الدخول فى مشروعات منتجة مكتفيا بمقاهى ومطاعم وملاهى أطفال دون إضافة حقيقية للاقتصاد القومى.
بل أكثر من ذلك نجد رجال أعمال يبيعون شركاتهم ويستثمرون أموالهم فى الخارج كما فعلت عائلة ساويرس التى وضعت مليارات كسبتها من المصريين فى شركات أوروبية وآسيوية وأمريكية وكأن مصر بالنسبة لهم مجرد محطة لجمع الأموال التى يفيدون بها شعوب جنسيات أخرى.
كل ما تقدم حيثيات واقعية تدعونا للحساب.. تعالوا نتحاسب.. لم تركنا من كسبوا المليارات من بيع شركاتهم للأجانب دون أن يدفعوا ضرائب؟.. لم نقبل الصلح مع فاسدين وننجيهم من السجن ونقف بالمرصاد ضد من يحترم القانون ويؤدى ما يطلب منه؟.. لم نترك كبار المسئولين يعملون فى خدمة رجال أعمال يستغلون علاقاتهم ويسهلون مصالحهم؟.. لم تظل البيروقراطية الشرسة متحكمة فى الاقتصاد ومعطلة لنموه؟.. لم أصبحت الثرثرة هى الصناعة الثقيلة المغرية التى نبرع فى تشييدها؟.
إن من يفرطون فى الحديث عن عشق مصر عليهم أن يواجهوا مسئوليتهم برجولة أو يأخذوا رسائلهم الغرامية وينسحبوا منها غير مأسوف عليهم.