رامي المتولي يكتب: "صلاح أبو سيف مذاكرات مجهولة".. لـ"عادل حمودة"
البداية "صحفي".. والنهاية عبقرى إخراج
عانى من أب مزواج وحياة قاسية أثرت فى أعماله
على الغلاف أسماء 3 من كبار الأساتذة، الكتاب «صلاح أبو سيف.. مذكرات مجهولة» وهنا الاسم الأول للمخرج الكبير صلاح أبو سيف، والثانى لمؤلفه الكاتب الصحفى عادل حمودة، وتقديم الكتاب للناقد طارق الشناوى، يجمع بين الثلاثة أكثر من غلاف الكتاب، كلهم بدءوا من بوابة الصحافة ويحملون تفردا خاصا، وثلاثتهم خط ممتد من الأستاذية يعترفون خلال صفحات الكتاب بالأفضال بدء من حمودة الذى يدين بالفضل لصلاح الذى يدين بدروه لأساتذة سابقين والشناوى الذى يدين بالفضل لحمودة وصلاح معًا.
ربما يكون تقارب البدايات بهذا الشكل جعل الرابط وثيقا بين ثلاثتهم، دقة مواعيد كل منهم وانضباطهم جعلهم مناسبين وبالتالى انعكست هذه السمات الشخصية المتوافقة على المكتوب، الحكايات الموثقة لم تكن جامدة بلا روح بل إلى جانب كثافة المعلومات الممنوحة هناك كتابة إنسانية لأنها تصف حياة بشر وتفاعلاتهم، وإبداعية لأن المعنى بالكتابة عنهم والمؤلف نفسه من محبى السينما وأصحاب الآراء فيما تقدم، لذلك حملت الكلمات المكتوبة فى هذا الكتاب المكون من 140 صفحة ضمن إصدارات النسخة الـ40 من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى أرواح أصحابها وصفاتهم، هذه الكلمات تنقلنا زمنيًا لحقب زمنية أسبق ولا تكشف فقط اسرار وتفاصيل الحياة السينمائية فى مصر ولكن لحد كبير شكل المجتمع فى مصر فى كل من هذه الحقب.
1- تقديم لابد منه..
حكاية هذا الكتاب يجب أن تسبق الكتاب نفسه، ما الذى حدث ليظهر هذا الكتاب للنور؟ لمعرفة هذه التفاصيل يجب أن نعود للوراء حيث بدأت علاقة حمودة والشناوى والتى يرويها الأخير فى تقديمه للكتاب، الزمن منتصف سبعينيات القرن الماضى حيث كان الشناوى طالبا فى الفرقة الأولى- كلية الإعلام جامعة القاهرة، وكان حمودة سكرتيرًا لتحرير مجلة «روزاليوسف» التى كانت مطمع الطلبة فى أن تكون مكانا للعمل أو التدريب، ربما تكون البداية قاسية بين الشابين اللذين يفرق بينهما عدد قليل من السنوات، حسب رواية الشناوى الذى استشعر من تحية الصباح الموجهة من حمودة إلى رئيس التحرير صلاح حافظ أنه ربما يكون عبئًا على سكرتير التحرير ليس لشخصه ولكن لكونه شخصا آخر يجلس أمام حمودة ومطلوب من الأخير متابعته وتدريبه والتعامل معه.
لكن الشناوى استمر بإصراره المعهود دون أن يلتفت كثيرًا لجمود اللقاء الأول، وعاد فى اليوم الثانى محملاً بأخبار فنية مكتوبة بخط يده الذى وصفه بـ«أسوأ خط فى الدنيا» والذى ظن أنه سيكون السبب فى انطباع آخر من حمودة سيمنعه من العودة للمجلة، لكن الأخير التقط خبر بعينه وصدره على غلاف المجلة، ثم يستمر طارق فى السرد ويصف تعامل حمودة مع تكذيب حليم للخبر ثم دعمه للشناوى على طول الطريق ومنحه مساحات أكبر فى المجلة ليضع بصمته عليها.
تمثل علاقة الشناوى بحمودة قصة صعود للأول من كتابة اسمه ببنط أسود رقم 9 وهو أصغر بنط، لكونه الآن الناقد النجم وهى العلاقة التى يبدو واضحًا تأثير حمودة وصلاح أبوسيف وصلاح حافظ وعدد آخر من الأسماء الكبيرة على مسيرة ومشوار الشناوى لينتقل بعد ذلك فى المقدمة لتحليل أسلوب عادل حمودة وفلسفته الخاصة فى إدارة المجلة معددًا نتائج هذه العلاقة التى جاء أحدثها فى هذا الكتاب الذى قدمه الشناوى بعد أن وجد حمودة هذه المذكرات التى كانت مفقودة واقتنصها مهرجان القاهرة حسب وصف الشناوى عضو اللجنة العليا للمهرجان.
2- ملامح الإنسان صلاح أبو سيف..
مساحة ذاتية مكتوبة بقلم جواهرجى الصحافة المصرية عادل حمودة تحت عنوان «مقدمة» لا تأتى كما يوحى العنوان الذى يتصدر الصفحة 17 فى أعلى المنتصف، الذاتية لا تعنى أنها منصبة على شخص عادل ولكن على شخص الراحل الكبير صلاح أبو سيف بأسلوب حمودة، وربما تكون هذه الصفحات - من 17 وحتى 26- هى آخر مساحة ذاتية فى الكتاب، حيث يترك حمودة بعدها خيط الحكاية لأبو سيف، فى هذه الصفحات تظهر إحدى ملكات حمودة من السطر الأول، السحر الذى يتركه قلمه والذى ما أن تبدأ فى قراءة أولى كلماته حتى تغرق فى عذوبة الحكى وسلاسة الانتقال بين السطور والفقرات، تحمل أسلوبية عادل الكثير من صفاته، الكلمات منمقة مختارة بعناية كملابسه وطريقه تصفيفه لشعره، تحمل وجهة نظر قوية على الرغم من نعومتها وسهولة تقبلها لبساطة تراكيبها كما يبدو فى طريقة كلامه الهادئة الرامية للتركيز على الجمل القصيرة التى تضم معلومات ممزوجة برأى واضح قاطع، ولا تخلو من ذكر المصادر بأسلوب راق مدمج فى الحديث حيث يحرص بعد كل جملة أن يدمج المصدر والتاريخ وبترتيب مذهل، الكتابة تبدو على نفس الشكل والرقى الذى تعكسه شخصيته والتى يلمسها كل من يقترب من هذا الشخص صاحب اليد البيضاء على الكثير من الصحفيين فى أجيال مختلفة.
بداية المقدمة توضح بشكل كبير التفاصيل السابقة، حيث صدر حمودة المقدمة التى كتبها فى شتاء 1992 وحرص أن يصدر الكتاب بهذه المعلومة المهمة بـ«ثلاثة أرباع نجوم السينما من اختراع الصحافة.. أو من شغلها وتطريزها على الأقل.. إنها ترسمهم بألوان الطيف على مساحة فى سماء قوس قزح.. تفصلهم من قماش الخيال الخصب».. بهذه السطور يصف بشكل مكثف علاقة الفنانين بالصحافة مستعينًا بخبرته وباعه الطويل فى العمل داخل أروقتها يمنح بما لا يدع مجال للشك تأكيدا على أهمية الصحافة الفنية من وجهة نظرة ويستغل هذه السطور العذبة فى الوصف فى توضيح الفرق بين النجوم وصلاح أبو سيف، ففى مطلع الفقرة الثانية كتب «وهم يصدقون ما نقوله عنهم.. يعجبهم القناع الساحر الذى نصنعه لهم.. يستسلمون للوهم الجميل اللذيذ، الذى نطلقه حولهم.. وربما فقدوا الذاكرة، ونسوا واقعهم وتاريخهم.. وأعادوا رواية قصة حياتهم كما نريد، لا كما حدثت.. ومنتهى القسوة أن نذكرهم بالحقيقة.. أو نتهمهم بالكذب»
هنا يضع حمودة أساسا للكثير من التجميل الذى يطال السير الذاتية للنجوم ومرة أخرى يعبر عن ذلك فى سطور قليلة تمهيدًا لينتقل إلى النقطة الرئيسية فى بناء كتابه ومحورة صلاح أبو سيف ليكتب فى الفقرة الثالثة بشكل قاطع وحاد «صلاح الدين أبو سيف مسعود فهمى، وشهرته صلاح أبو سيف، ليس من هؤلاء.. إنه نجم من طراز آخر.. لا يعرف الوهم.. ولا يدمن الكذب» هنا تأسيس فى 3 نقلات سريعة من العام إلى الخاص يصف النجوم ويبرز للقارئ أهمية صلاح أبو سيف وأستاذيته وتفرده الذى جعل ربما حمودة يذهب لهذه المنطقة ويركز على أن تظهر المذكرات على لسان صلاح نفسه بداية من الفصل الأول يبتعد حمودة لمسافة آمنة تسمح للقارئ أن يكون علاقة حميمية بين وبين عملاق فى حجم صلاح أبو سيف دون أن يحاول أن يظهر فى الصورة بشكل واضح، هى صياغته لكنها روح أبو سيف حسب تصريحه فى الندوة التى أعدت خصيصًا لتوزيع الكتاب بحضور الشناوى وعدد من تلاميذ حمودة وأبو سيف واصدقائهم.
3- الاشتباك..
بعد المقدمة التى فسرت علاقة حمودة بصلاح أبو سيف وذكرت أهميته وأهمية أن تكون هذه المذكرات متاحه من الأساس بمنتهى الموضوعية كصحفى وكاتب يقدم للقارئ أسبابه فى خوض هذه المغامرة المثيرة والثرية ويصف ملابساتها بدء من تواجده فى السابعة صباحًا ليحاور أبو سيف مرورًا بكتابة الحوار المسجل ومنحه الطابع الذى اختاره ليمهد لمن يقرأ كل التفاصيل قبل أن يخوض صلاح فى رواية قصة حياته بضمير المتكلم كما اختار حمودة الشكل.
«12» هو عدد فصول المذكرات تبدأ من قبل ميلاد أبو سيف بشهر، حيث كانت الحيلة هى وسيلة المحيطين بوالدة صلاح فى إبلاغ الوالد غير المكترث المزواج، ليصل فى ميعاده ويحضر ميلاد أبنه حيث كنت عادة الأب أن يحضر بعد الميلاد بشهر، ثم يحكى أبو سيف تفاصيل حياته ومعاناته كطفل ومراهق وشاب معاصراته لثورة 19 وتنصته على عاملات وكالة الصوف وصورة الأب القاسى التى جسدها فى العديد من أفلامه وبداية علاقته بالسينما، التى قدم وصفًا تفصيليا لطقوسها فى ذلك الوقت، حيث تواجدت مهنة «المفهماتى» وهو الشخص المسئول عن تفسير الفيلم الصامت للجمهور والأوركسترا الموسيقى التى كانت تصاحب عروض الأفلام والكثير من التفاصيل الدقيقة التى ذكرها أبو سيف فى هذا الفصل الذى انتهى بقراره القاطع فى العمل بالسينما.
الفصل الثانى يبدأ بعلاقة صلاح مع ستوديو مصر وناس ستوديو مصر من الأجانب والمصريين بالشكل الذى يجعل من الفصول التالية ليس فقط تأريخا لحياة أبو سيف ولا السينما المصرية فقط لكنه عكس فى الفصول التالية تغيرات وتحولات محورية فى الحياة الاجتماعية والسياسية وهى كثيرة نعرفها على لسان
من عاصرها صاحب الذاكرة القوية حتى سنوات قليلة تلت ثورة 1952، هذه اللحظة التى تتوقف عندها المذكرات لأنها حسب تصريح عادل حمودة هى الجزء الذى راجعه أبو سيف بنفسه قبل وفاته وعلى الرغم من امتلاكه تفاصيل أخرى وشرائط مسجل عليها فترات تاريخيه لاحقة إلا أنه فضل أن يلتزم بما راجعه المخرج الكبير بنفسه وفيها الكفاية لتكون نقطة ارتكاز تكشف الكثير من تفاصيل العلاقات الشخصية والفنية فى حياة صلاح أبو سيف التى لم تتطرق لها الصحافة كثيرًا.
4- الجواهرجى كجندي مجهول
على الرغم من أن المذكرات نفسها مكتوبة على لسان أبو سيف وكأنها قادمة من شرائط الكاسيت غلى الورق مباشرة، لكن فى الخلفية لا يمكن إغفال دور عادل حمودة، ربما لا يكون أسلوبه فى الكتابة حاضرا فى فصول المذاكرات بشكل واضح ولا تراكيب الجمل المشهور بها، لكن منهجه حاضر، الدقة فى السرد والتوثيق إلى جانب غزارة المعلومات وترتيبها لا تترك مجالاً للشك أن وراءها أسئلة قوية سعى للكشف عن التفاصيل حتى لا تكون المذكرات مجرد حكايات جوفاء أو كذب يصدقه أصحابه من النجوم، ربما يكون حمودة تراجع خطوة للوراء وترك صلاح يقود كل شىء لكنه فرض منهجه كمحاور وباحث وشغوف بالسينما على كل حرف مكتوب فى المذكرات.