د. رشا سمير تكتب: محترم يوقد شمعة!
محترم، هذه ليست صفة ولا حتى تقدير لأحد، بل هو اسم، لا تستغربوا من كلامى، هو ليس أيضا أحد الأسماء الخمسة ولا اسم منقوص أو موصول. لا تضحكوا أرجوكم، إنه اسم شخص!، نعم، مواطن مصرى اسمه محترم!، ليس مجرد شاب فى منتصف الثلاثينات، لكنه إنسان بسيط، من أسرة متوسطة، فى كل شىء، العُمر والدخل ومنطقة السكن والإمكانيات..إلخ.
رزق الله أبوه الأستاذ عبدالحميد بطفل بعد طول معاناة، وبعد زيجة لم ينعم الله عليه فيها بالإنجاب لمدة طويلة.
الأستاذ عبدالحميد موظف مستور الحال، يعمل كفنى صوت فى أحد استوديوهات ماسبيرو، منذ وعى على الدنيا ومنذ تصور أن ماسبيرو هو الفن والإعلام والحُلم.. كان حُلمه الانضمام لأعرق مؤسسة إعلامية فى مصر.
اكتشف بعد أعوام من التجمد والروتين والبيروقراطية والتكدس الإدارى أنه لم يدخل هذا المكان ليُصبح موظفا على رأسه طربوش وفى يده جريدة وبطيخة، لكنه تحول إلى هذه الصورة الكاريكاتيرية بعد أعوام، اعتلاه فيها التراب والصدأ وتوقف كل طموحه عند الدرجة الوظيفية والإداريات العقيمة.
عندما أنجب الأستاذ عبدالحميد طفلا بعد عشر سنين من تأخر الإنجاب قرر أن يسميه (محترم)، أولا إيمانا منه بفكرة الحسد، وبأن تسمية الأبناء بأسماء غريبة قد تدرأ عنهم عين الحسود، وثانيا وهذا هو الأهم أن الاحترام فى نظر عبدالحميد أفندى هو أهم قيمة قد تؤدى إلى رفعة البشر وترتقى بالمجتمعات.
مشكلة (مُحترم) بدأت منذ كان فى المدرسة، والمعلمة تسأله عن اسمه فى وسط الفصل بصوت مرتفع، فيرد ويقول: محترم عبدالحميد.
كانت الضحكات تتسلل إلى أذنيه، فينظر حوله ليجد كل زملائه غارقين فى الضحك، يرد أحدهم: «تقصد أن عبدالحميد رجل محترم، هو حد سألك؟»،
وتتوالى الضحكات.
ثم يفاجئه زميل آخر: «لأ، ده بيوصف لنا حالته، أو بيعمل له دعاية انتخابية يمكن نازل مجلس الشعب»، ليضطرم وجهه بحُمرة الخجل ويدب التوتر فى جسده ويتصبب العرق من جبينه ويسكت.
لم تنته مأساة (محترم) عند المدرسة، ولكنها وصلت إلى الشارع، حين وقع فى يد لجنة من أمناء الشرطة تسأله عن اسمه وبطاقته.. فيرد: «محترم».
على الفور رد أحدهم قائلا: «أنت مستخف دمك ولا إيه ياض، ما ترد عدل وإلا اسحبك على القسم؟».
وحيث إن عبدالحميد ولد فى أسرة هادئة، تمشى بجوار الحائط حتى لا تصطدم بأى شىء صلب فى وسط الشارع وقد تضطر إلى السير فى داخل الحائط أحيانا حتى لا تعطل حركة سير التريلات الكبيرة فقد قرر أن يستمر فى صمته!.
تخرج (محترم) فى كلية الهندسة بدرجة امتياز، وكانت فرحة أبيه وأمه به كبيرة، ولأن تقديره كان كبيرا فقد انتظر أن يكون ضمن المُعينين فى الكلية، لكن ولأنه كان هناك أكثر من شاب معه فى نفس الدفعة آبائهم من أصحاب الحظ والنفوذ، تم استبعاد (محترم) من قرار تعيينات المُعيدين وتم تعيين هؤلاء.
لم يستسلم (محترم) لليأس ولم يندب حظه وقرر فى لحظة مراجعة للنفس أن يوقد شمعة بدلا من أن يلعن الظلام، أصبح مدمنا لإعلانات التوظيف، يشترى الجرائد كل يوم ويقطع إعلانات التوظيف ويتابعها بشغف أكبر من متابعته لمباريات كُرة القدم.
يتأنق ويرتدى أفخر ثيابه ويذهب للمقابلات التى تُعقد فى الشركات، يدخل الامتحانات الشفوية والتحريرية وينجح بتفوق، فيفرح ويدب الأمل فى أوصاله، ثم يتم تعيين صاحب النصيب، الذى كان الإعلان فى الأصل مُفصلا ليكون على مقاسه!
ويقرر (محترم) أن يوقد شمعة من جديد بدلا من أن يلعن الظلام، يسأل نفسه: ولماذا يتحتم علىِ العمل بشهادتي؟، لماذا لا أفكر خارج الصندوق وأثبت نفسى فى أى مهنة أخرى أو أى شركة قطاع خاص بعيدا عن العمل الحكومى؟!
وفى خضم محاولاته الكثيرة تم اختياره فى شركة للتسويق العقارى، وظيفة كل المؤهلات التى تتطلبها هى أن يكون لحوحا وغتيتا وغير محايد وصاحب قدرة على الإقناع بسماجة!
بعد شهور من تعيينه بعقد مؤقت يكتشف أنه وقع فى عش الدبابير، وأن الحياة الوظيفية فى الشركات الكُبرى ليست إلا صراع البقاء فيه للأقوى والأكثر دهاء، وأرض خصبة للمؤامرات والحيل والصراعات التى لا تنتهى.
هذا يحاول إرضاء المدير بالتدليس، وذاك يوقع بين زملائه بالوشاية، وآخر يحاول اقتناص نجاح زملائه، وهذا يعمل عصفورة بجدارة، استحق عليها الترقية والمكافأة.
اكتشف (محترم) أيضا من خلال عمله فى شركة التسويق العقارى شيئا آخر كان خافيا عنه، جزء من الصورة فى مصر لم تكن يوما فى باله، أن البشر هنا فئتان، واحدة لا تفكر سوى فى لقمة العيش وقوت اليوم، وهى الفئة التى تعمل حساب الحلال والحرام وتتمسك بفضيلة الصواب والخطأ، وهى الفئة التى تستخير الله قبل أن تتخذ قرارا بخروج مائة جنيه من المحفظة!
أما الفئة الأخرى فتتعامل مع المليون جنيه وكأنها مائة جنيه، وكأن من يتعامل معهم من زبائن يقطنون دولة أخرى، فمن يتملكون قصورا بعشرين مليون جنيه فى مراسى، هم أيضا من يتملكون مثلها فى الجونة والمنصورية، وغالبا ما تكون اليونان هى وجهتهم التالية!
أصيب (محترم) بالاكتئاب، لكن وقبل أن يستسلم لشعور الهزيمة قرر أن يعاود التجربة ويوقد شمعة من جديد، علها تنير له طريقا هذه المرة، استقال من شركته واشترى سيارة بالقسط ساعده أبوه فى دفع أقساطها، وقرر أن يصبح أحد سائقى شركة أوبر وكريم..
تجربة من نوع آخر، تعرف على بشر لم يكن يحلم أنهم موجودون.
أصبح يقضى النهار كله فى الشارع ما بين زبائن مرفهين وآخرين يتصيدون الأخطاء وفتيات مستهترين وتجار مواشى وتجار حشيش، ألوان وأشكال من البشر، معاملات فتحت آفاقه وعقله لدولة أخرى داخل الدولة.
إلى أن كان أحد الأيام، جاءه طلب من أحد الزبائن والدفع نقدى، توجه للمكان الغريب باحثا عن الرزق حتى لو كان فى الصحراء، ففوجئ بمجموعة من الرجال ذوى الهيئات الغريبة ينقضون عليه ويخرجونه من السيارة ثم يوسعونه ضربا حتى نزفت الدماء من رأسه ويمسكون بهرواتهم وينزلون على السيارة فيهشمونها تهشيما وسط ذهول منه وصدمة لم يستعبها إلى أن سمع إحداهم يقول له وهو يركله فى جنبه:
«أصلنا كنا ناقصينكم.. جايين تاخدوا قوتنا وقوت عيالنا».
وفهم (محترم) على الفور أن هؤلاء الرجال ليسوا سوى سائقى التاكسى الأبيض الذين تصوروا فى فورة الغضب أن شركات أوبر وكريم تحاربهم ونسوا أنهم تحولوا مع الوقت إلى بلطجية وليسوا أصحاب مهنة فنفروا الرُكاب.
انتهى الأمر فى قسم الشُرطة حيث قام (محترم) بعمل محضر للرجال، وصرف له التأمين جزءا من تلفيات السيارة، فقرر أن يهجر تلك المهنة التى علمته أحد أهم الدروس فى حياته وهو أن البقاء للأكثر بلطجة.
فكر (محترم) كثيرا فى حياته، وفى معاناته وفى مكاسبه وخسائره، ولأول مرة يشعر باليأس، ويتخذ قرارا دون رجعة بأن يهاجر ويجرب حظه فى الخارج، لم يكن معه ما يجعله يعيش عيشة فاخرة فى بلد آخر ولكن ربما أن تغيير المكان قد يحمل تغييرا لأقداره.
عارضه أبوه وبكت أمه وصمم أن يجرب حظه هذه المرة بطريقته ويطلب منهما السماح والدعاء له، باع أبوه أثاث بيته وجمع تحويشة عمره وأعطاها لابنه الوحيد الذى كان سفره بمثابة شهادة وفاة لوالديه، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
ذهب (محترم) إلى أحد تجار رحلات الهجرة غير الشرعية وأعطاه كل ما يمتلك من نقود وأخبره الرجل الذى كانت ملامحه أشبه بملامح عشماوى بميعاد تحرك المركب إلى إيطاليا.
عاد إلى المنزل حاملا همومه على ظهره، مودعا ابنة جيرانه التى أحبها منذ طفولته وحالت ظروفه وأقداره دون زواجهما، قال لها: «إن شاء الله هتُفرج وهارجع ونتجوز»، بكت.. فجرى من أمامها قبل أن تفر الدمعة من عينيه.
جلس على شاطئ النيل ساعات وساعات سارحا بخياله، هائما على وجهه منتظرا أن تُفرج، إنه يعشق تراب مصر ويعشق نيلها، ورث حبها من حب أبيه لها..عاش طول عمره مواطنا صالحا.
ولكن فى لحظة خاطفة قرر أن يتخلى عن فكرة السفر ويوقد شمعة من جديد، لكن فى هذه المرة كان عليه أن يقوم بعمل مشوار أخير حتى يتسنى له أن يتعايش مع من حوله بشكل أفضل ربما يكون هذا القرار خطوة لتحقيق أحلامه.
دخل إلى مصلحة السجل المدنى حاملا معه كل الأوراق المطلوبة، وانتظر دوره، نظر إليه رجل بائس من تحت النظارة المقعرة قائلا: «إيه المطلوب؟»، فأخبره: «عايز أغير اسمى؟»
هز الرجل رأسه مستهزئا وقال: «ناس فاضية، هتسمى نفسك إيه يا سيدى؟»
رد (محترم) بكل ثقة: «فهلوى».