منال لاشين تكتب: أزمات فى طريق مصر الموازية
بعد مخاطر الدولة الرخوة
وضع الديون الخارجية يحتاج إلى حلول غير تقليدية
للكاتب والاقتصادى الرائع الراحل الدكتور جلال أمين كتاب بديع اسمه (الدولة الرخوة). والكتاب مجموعة من المقالات المهمة جدا.والفكرة الرئيسية فى الكتاب أو المقالات هى انهيار الدولة من خلال الخلط بين القيم والأفكار التى لا يجب أن تختلط أو حتى تتقارب. مثل الخلط بين الإعلام والإعلان والثروة والسلطة والرضا بالحد الأدنى من الجودة أو بالأحرى أساسيات قواعد الحكم والاقتصاد والتعليم وكل أوجه الحياة. فيصبح لدينا أشباه مؤسسات وقواعد وليس مؤسسات أو قواعد. فتجاهل الدستور وإهمال أحكامه ومواده يجعل لدينا شبه دستور. والخلط بين الإعلام والإعلان يحرمنا من وجود إعلام حقيقى.. والتضييق على الأحزاب والحياة السياسية يبعث لديك شبه حياة سياسية. وهكذا الأمر بالنسبة للتعليم والمؤسسات الحكومية.فتتحول الدولة إلى دولة رخوة قابلة للانهيار.
هذا ملخص بسيط ومبسط لفكرة الدكتور جلال أمين عن مخاطر الدولة الرخوة. ولاشك أننا عشنا فى زمان مبارك خاصة العشر سنوات الأخيرة الكثير من ملامح الدولة الرخوة.
وعندما جاء الإخوان فى العام الأسود الذى حكموا مصر فيه استغلوا سمات الدولة الرخوة ليحولوا مصر إلى دولة أو بالأحرى دولية فى الخلافة الإسلامية فى تركيا.وليزرعوا رجالهم وجواسيسهم فى كل مؤسسة فى مصر. ولذلك لم يكن الإخوان ضد استمرار الدولة الرخوة لأنها تمكنهم من التمكن من مفاصل حكم مصر. وتحقيق خطة التمكين.
1- مهمة مؤقتة
وحدثت ثورة 30 يونيو وانتهى الأمر أو استتب إلى حكم الرئيس السيسى فى ولايته الأولى.
وكان لدى الرئيس فى العام الأول من حكمه أسباب بدت موضوعية للانطلاق من خارج مؤسسات الحكومة أو وزاراتها. وأنا هنا أتحدث عن المشروعات أو تنفيذ خطة الرئيس لإعادة مصر إلى مكانتها. وعلى رأس هذه الأسباب هشاشة المؤسسات الحكومية وضعف الكفاءة بها والتخوف من زرع الإخوان لجواسيس فى هذه الوزارات والمؤسسات لإفساد وإفشال خطط التنمية. ولذلك فى معظم المشروعات العملاقة كانت خارج سيطرة الحكومة وذات بناء مؤسسى موازٍ أو بديل للهيئات والمؤسسات الحكومية. وربما تكون الرغبة فى الإسراع بالإنجاز جعلت الكفة تميل إلى هذا الأسلوب. وقد ظهر ذلك فى مشروعات كثيرة بل امتد إلى أزمات أو بالأحرى حل أزمات جماهيرية مثل أزمة ألبان الأطفال. وقد كنت أتصور أو أتمنى ألا يستمر هذا الأسلوب الموازى لأكثر من عام أو عامين بحد أقصى. وخلال هذه المدة تجرى عملية إصلاح المؤسسات الحكومية على قدم وساق. إصلاح يمكن المؤسسات والهيئات الحكومية من أن تقوم بواجبها والتزامها وعملها الدستورى والقانونى وأن تلعب الدور الأساسى فى التنمية، وتظل المؤسسات الأخرى داعما وسندا للمؤسسات والهيئات الحكومية، وكان من الممكن أن نتخلص نهائيا من التواجد الإخوانى الإرهابى فقط فى هذه المؤسسات الحكومية. ولو حدث ذلك لعادت الحكومة بهيئاتها ومؤسساتها للعب الدور الرئيسى وقيادة قطار التنمية فى مصر.
2- دولة موازية
وبعد خمس سنوات فإن الأمر لم يتغير كثيرا ولا يزال الوضع المؤقت مستمرا فى قيادة تنمية الدولة وطرح مشروعاتها وتنفيذ خططها. وربما تكون الرغبة فى إنجاز المشروعات فى وقت قياسى من ناحية ومحاولة بناء كامل لمصر من ناحية أخرى قد دفعا لاستمرار هذا الوضع. فمن ناحية الأهداف والنوايا فلا يوجد لدى شكوك فى الأهداف أو النوايا. ولكن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. وبعيدا عن أى مبالغات فإننا أمام مشاكل وأزمات ناتجة عن الاستمرار فى التنمية فى مسار موازٍ والتحديث من خلال مؤسسات لا تخضع للحكومة بل هى فى الأحيان والحالات أعلى من الحكومة ورئيس الحكومة نفسه.
فنحن كمجتمع.. برلمان وإعلام وحكومة ومعارضة لا نعرف أجندة كاملة للمشروعات التى أنشأت أو أطلقت أو جارٍ إطلاقها أو فى انتظار البدء بها. بل إن بعض المشروعات قدمت كهدية للشعب المصرى أو بالأحرى مفاجأة للشعب المصرى. وهذا الوضع له إيجابياته وسلبياته. وأظن أن الجميع يعلم إيجابياته من حيث السرعة أو الانجاز بمستوى كفاءة عالية. ولكن فى ظل الخوف من مخاطر الإرهاب أو التهديد بضرب مشروعات أو حتى الرغبة المشروعة فى الوصول بمصر إلى أرقى المستويات وتعويض الزمن. فى ظل هذا وذاك لا يرى الكثير منا المخاطر والأزمات. فقد أصبحنا أمام دولة موازية للجهاز الإدارى بأكلمه بما فى ذلك مؤسسة الإعلام. لدينا تليفزيون حكومى يعانى الأمرين. ولدينا فضائيات كبرى تابعة للمال العام. وشتان بين الإمكانيات المتوفرة لهذه الفضائيات، وبين الملاليم التى تصرف على تليفزيون الدولة (ماسبيرو). وهناك مؤسسات إدارية على أعلى مستوى يقابلها انهيار فى المؤسسات الحكومية المثيلة أو التى تعمل فى نفس التخصص والملف. وهناك طرق عالمية وناطحات سحاب فى المدن الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة فى مقابل شبه انهيار فى منظومة الطرق والمبانى المخالفة فى المدن القديمة والعاصمة القديمة (القاهرة). ولدينا مجموعة عمل صغيرة وغير مسئولة دستوريا ولا قانونيا على أعلى مستوى من الأداء والإدارة فى مقابل الحاجة إلى تنظيم ورفع كفاءة الجهاز الإدارى والقطاع العام لأنهما أصحاب الحق الأصيل فى إدارة التنمية فى مصر.
وهكذا يتسرب إلىَّ إحساس الكثيرين أن لدينا دولتين مصر الدولة الرخوة ومصر الموازية الدولة الحديثة. وأسوأ إحساس أن معظم المصريين لا يعرفون الكثير أو القليل من مصر الحديثة. لا تكلفة المشروعات ولا دراسة جدوى ولا أسباب اختيار مشروع وتأخير آخر. ولا حوار مجتمعى حول أجندة المشروعات وأولويات الاقتصاد والسياسة والمجتمع. ولا حوار أو رقابة برلمانية حول هذه المشروعات. وهذا وضع خطير نتج عنه ارتفاع جنونى فى أزمة الديون الخارجية بشكل لم يحدث فى مصر.. وقال الرئيس والحكومة معا إن وضع الديون يحتاج إلى حلول غير تقليدية. والكثير من الخبراء الاقتصاديين والماليين يحذرون من ارتفاع الديون وأثرها على الموازنة وعلى مستقبل مصر. فأقساط وفوائد الديون الداخلية والخارجية تجاوزت 800 مليار وهذا رقم كارثى. هذا رقم يمنع أى تحسين لأحوال رواتب الموظفين أو إصلاح رواتب المدرسين أو إنجاز التأمين الصحى للمواطن أو إصلاح التعليم.. هذا رقم يمنع المياه والنور عن أهالى مصر الدولة الرخوة لصالح أهالى مصر الدولة الموازية.